التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 07:37 م , بتوقيت القاهرة

تراث وثلاث عيون

في قصة "أوقات عصيبة" لتشارلز ديكنز (1812 -1870) تدور الأحداث الرئيسية عن مدى التناقض الذي وصل له المجتمع الإنجليزي بين الأرستقراطية التي تستولي على الثروات و الامتيازات، ولا تترك للعوام إلا الفُتات الذي يتصارعون عليه، وكان ذلك إثر الحراك العمالي الكبير الذي شهدته أوروبا، والذي خرج للاحتجاج على أوضاع العمل المهينة التي يعيشون فيها، والظلم الواقع عليهم من أصحاب رأس المال.


رغم أن بريطانيا هي مهد الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية، إلا أنها وحتى سنوات قليلة مضت حوت تراثًا سيئًا من التمييز والظلم وإهدار كرامة البشر. وكان ذلك على يد الارستقراطية المتعلمة والمثقفة، والتي تملك الرفاهية والثروة، وكان هؤلاء لا يرون أي ظلم أو تناقض فيما يرسونه من قيم سلبية.


فالاستناد إلى تجارب البشر في أي وقت وداخل أي تاريخ، لا بد وأن يحوي تقصيرًا وتبديدًا، وهو أكبر دليل على أن الإنسان وحده لا يكفي، وأنه يحتاج لأن يأنس بتعاليم روحية كبرى تعلمه الزهد والتجرد والصدق والإيثار وتضرب على قلبه بالوعيد من عواقب الظلم، في الدنيا والآخرة.


وحتى اللحظة التي نعيش فيها، كما أقر مؤتمر دافوس الاقتصادي منذ أسابيع، فإن عام 2015 هو أكثر الأعوام التي حدثت فيها فجوة ضخمة بين الأثرياء الذين يزدادون غنى والفقراء الذين يعيشون في المعاناة، وهذا ليس سببه أن هؤلاء الفقراء جهلاء أو غير متعلمين، ولكن لأن النظم القانونية والسياسية والاقتصادية التي حكمت العالم هذا العام كانت تُكرس الثروة والسلطة لصالح الأثرياء. فلم ينعم الفقراء برعاية صحية وتعليمية تسمح لهم بالتحضر واكتساب المهارات والعمل.


ولو خضعنا لمبدأ "حرق التراث" لأحرق كل شعب تراثه، ولم يعلم مواضع القوة والضعف فيه، ولضيع على نفسه فرصة كبيرة للتعلم من أخطاء السابقين، ولأهدر العمل التراكمي للقيم والتقاليد المجيدة التي يستطيع أن يستوحيها من الماضي. ولو مددنا الخط على استقامته، لقلنا بحرق حاضرنا الذي نعيشه هو الآخر لأنه مازال يكرس للظلم والسرقة المقننة وفساد العمالقة الكبار.


في قراءة واعية للقرآن الكريم نجده يضع مسؤولية فساد الحياة على الشعوب التي تهرب من تحديات الإصلاح وتستمرئ الظلم وتضيع منظومة القيم المبنية على الرحمة والأمانة، ومسؤولية الكلمة والعفو عن الناس إلى الحكام الطغاة الذين يستذلون رقاب العباد، وإلى المترفين، والمسرفين، أصحاب رأس المال الذين يستغلونه في اللهو والفجور، ويهربون من مسؤوليتهم تجاه المجتمع.


ولو عدنا إلى شخصية الحاكم في التراث الحقيقي للإسلام نجد أنه جعله واحدا من عوام الناس، لا يملك قصرا وحاشية وحراسة وأموالا متخمة.. يجوع إذا جاعوا ويختلط بهم في حياتهم اليومية.


وحينما تلوث هذا التراث بتراث الممالك المحيطة في بيزنطة وفارس، والتي جعلت البشر قياصرة وملوكا ترفل في النعيم ويحملون على الأعناق ويحتجبون عن الناس في القصور، صار الحكم ميزة كبرى، بعد أن كان عبئا جسيما، وهنا انتقل المرض، وبدأت مشكلة الصراع على السلطة.


كان أبو بكر وهو خليفة يجلس على الأرض يحلب الشاة للجارية، ويسألها عن اسمها وبيتها، ويطمئن عليها حين الوصول.


وكان النبي محمد يخطب في الناس فيكشف رداءه عن جسده، ويدعو صاحب الحق أن يأتي ويقتص منه. 


ووقف الإمام علي أمام القاضي، وهو خليفة، على التساوي مع خصمه اليهودي لنزاع على درع، وطلب القاضي شهودا من الإمام فأحضر ابنه الحسن وخادمه قنبر، فرفض القاضي ورد شهود الخليفة، وحكم لليهودي.


وعندما علم عمر أن أحد ولاته اتخذ حجابًا من دون الناس أمر بحرق باب بيته ليكون مفتوحًا على الشارع. ولم يستطع أن يفلت من الخدعة سوى معاوية بن أبي سفيان، حاكم الشام، الذي حول موطنه قصرا كقصور الرومان. واحتج على عمر أنه يفعل ذلك لضمان هيبة المسلمين تجاه عدوهم. ووافق عمر على مضض وقال: حكمة أريب أو خدعة لئيم.. والثانية كانت أوقع. 


وعندما أرسل النبي رجلا لجمع الزكاة، عاد وسلمه المال المستحق، ثم قال وتلك الأموال لي جاءتني كهدية. فغضب الرسول (ص) وقال "ليجلس أحدكم في بيت أمه وينظر هل يرسل الناس له شيئا أم لا". ورفض استغلال المنصب العام للحصول على امتيازات وهدايا.


تلك الصورة الأولية - التراثية - هي التي جعلت مجموعة من العرب الرحل الذين لم يتعلموا الخضوع لأي قانون أو دولة أو سلطة مركزية، وعاشوا في عشوائية وانتقال، ينتظمون في دولة القانون والتكافل والمساواة، وفي غضون أقل من مائة سنة من وفاة الرسول كانوا قوة عالمية توازن الإمبراطورية البيزنطية (الروم الشرقيين) والإمبراطورية اللاتينية (الروم الغربيين) وتصير عنصرا في قيادة العالم القديم، بل وصلت في امتداد حكمها حتى جنوب فرنسا "نربونه" وحكمتها لنصف قرن!


اتفقت مع هذا أو اختلفت معه، سميته غزوًا أو فتحًا، فتلك كانت مبادئ العالم القديم، وهي أن الدفاع عن الحدود يبدأ من الخارج، وإذا توقفت عن مهاجمة خصمك، سيبادلك هو الهجوم. 


ونكمل في مرة تالية..