التنوير.. والتكفير
تنفستُ الصعداء وأنا أقرأ السطور الأولى من خبر هام نشر بالجرائد منذ أيام .. يقول الخبر إن هيئة الاستثمار أصدرت قرارًا في شكاوي الأزهر ضد برنامج "إسلام البحيري"، حيث رفضت الهيئة اعتماد قرار المنطقة الحرة الإعلامية بوقف البرنامج .. وحولت الإيقاف إلى إنذار.
وقلت لنفسي الحمد لله.. لقد انتصرت هيئة الاستثمار لحرية التعبير والرأي واستجابت لدعوى الرئيس "عبد الفتاح السيسي" إلى الانحياز إلى تصحيح الخطاب الديني.. وفتح شرفات المعرفة على مصراعيها لاتساع الرؤية.. وتعدد الإنكار وشجاعة الاختلاف.. وتعدد المشارب.. وانفراج زوايا التحليق في آفاق متنوعة وجديدة طمعًا في ثورة ثقافية تنتشلنا من براثن ردة حضارية كريهة نعيش في كنفها.. ورغبة في تجاوز محنة التردي في تخلف يرجعنا إلى عصور الجاهلية والتصحر والتمترس خارج التاريخ والزمن.
من شأن هذه الثورة المرجوة أن تعيدنا إلى عصر التنوير والنهضة في عشرينيات القرن الماضي حيث "طه حسين" و"العقاد" و"سلامه موسى" و"هدى شعراوي" ومن قبلهم الشيخ الرائد "محمد عبده" و"مصطفى عبد الرازق" و"علي عبد الرازق" و"قاسم أمين" فنحلم بمصر جديدة تقدس العلم وتندفع في اتجاه بناء دولة عصرية حديثة تناهض دولة دينية تقوم على سلفية ذميمة يلفظها العصر.
لكني ما أن أكملت قراءة الخبر حتى أصبت بالإحباط.. وحاصرني الاكتئاب.. وصرت فريسة لنهش الذات وإدانة نفسي بالسذاجة والنزق والرعونة في الاندفاع إلى تصورات مراهق ثوري أو ثوري مراهق.
يقول بقية الخبر: وتضمن نص الإنذار إلزام "القاهرة والناس" بتلافي أسباب المخالفة في مضمون ما يبث في برنامج مع "إسلام"، وذلك في ضوء ما ورد في خطاب الأزهر الشريف، وذلك في غضون أسبوع من تاريخ الإنذار.. وفي حال عدم الالتزام سيتم عرض موقف الشركة على مجلس إدارة المنطقة الحرة الإعلامية لاتخاذ ما يراه مناسبًا في هذا الشأن وفقًا لأحكام القانون ولائحته التنفيذية.
فما هو يا ترى تفسير العبارة المكتوبة بصياغة لولبية.. ومائعة.. وتحتمل كثيرًا من التأويل ألا وهي تلافي أسباب المخالفة في مضمون ما يبث في برنامج "مع إسلام" على ضوء ما ورد في خطاب الأزهر الشريف..؟!
الأمر لا يحتاج إلى ذكاء في استنتاج أن ما ورد في خطاب الأزهر يتسق ويتناغم ويتشابه ويتفق ويتماهى مع بلاغ مشيخة الأزهر إلى المستشار "هشام بركات" النائب العام ضد الإعلامي "إسلام البحيري" اعتراضًا على ما يبثه من أفكار شاذة تمس ثوابت الدين وتنال من تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم.. وتسيء لعلماء الإسلام وتعكر السلم الوطني وتثير الفتن.
أما البيان الرسمي الذي أصدرته المشيخة.. والذي حرصت على أن تؤكد أنه يأتي انطلاقًا من مسؤوليتها الشرعية.. والدستورية الممنوحة لها بحكم الدستور.. هذا البيان يأتي في إطار الرد على خطورة ما يروجه "إسلام" بين المشاهدين وأثار استياء واستنكار وتعالي أصوات الجماهير تستغيث بالأزهر لوقف البرنامج ومحاسبة مقدمه لتعمده النيل من أئمة وعلماء الأمة المشهود لهم بعلو المكانة ومنزلة تراثهم الذي لا ينكره إلا موجه أو جاحد أو غير مدرك لما يحويه هذا التراث العظيم الذي أثرى المكتبة الإسلامية والعالمية بكل نفيس وغال.
المدهش في الأمر أن هيئة الاستثمار أعلنت من خلال رئيس مجلس إدارة المنطقة الحرة الإعلامية أن الإنذار إذا لم يتم الالتزام به سيتم اللجوء إلى المادة (88) من القانون والتي تتيح أحد القرارات ومنها إعادة إنذار الشركة المنفذة للبرنامج مرة أخرى أو وقف الترخيص.. وأضافت أن المنطقة الحرة لا علاقة لها بمراقبة المحتوى وإنما متابعة مدى التزام الشركات المالكة للقنوات الفضائية بالقواعد وميثاق الشرف الإعلامي.
أي أن النية تتجه في النهاية اتجاهًا محددًا وواضحًا هو إيقاف البرنامج لأنه من البديهي أن التزام "إسلام البحيري" بتعليمات الأزهر كما وردت في بيان الأزهر أو بلاغه إلى النائب العام.. هذا الالتزام ليس له غير معنى واحد هو إلغاء كل ما يقوله من آراء وأفكار وتوجهات ومعاني والتوبة عن كل ما يراه منطقي وموضوعي.. يستوجب النقاش والاجتهاد والتفسير والمعارضة وإعمال العقل.. ويرونه هم شططًا وتجديفًا وكفرًا.