التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 08:33 م , بتوقيت القاهرة

دفاعًا عن التطرف

يرتبط مفهوم التطرف في وعينا المعاصر بالدين. فعندما نسمع تلك المفردة أو نقرؤها تقفز إلى مخيلتنا في تعجل صورة المتشدد الديني الكاره للمجتمع، والمستعد في أي لحظة أن يعتدي علينا إذا واتته الفرصة. ولعل السبب في هذا الارتباط هو تبني كثير من المتشددين الدينيين في العقود الأخيرة نهج العنف الدموي لفرض رؤاهم على المجتمع. وبالطبع فإن أي محاولة لفرض الرأي بالقوة غير القانونية كفيلةٌ بأن تجلب لأصحابها ازدراء المجتمع وكراهيته. بل من حق المجتمع الراغب في العيش الآمن أن يصنف هؤلاء "المتطرفين" في خانة الأعداء.


لكن التطرف، بوصفه شططًا في الرأي وتعصبًا له وانحيازًا لجانب واحد من الحقيقة دون جوانبها الأخرى، قد لا يكون بالضرورة قاصرًا على المتشددين الدينيين. فلو كان هؤلاء المتشددون يرون مثلاً أن البعد عن الدين هو سببٌ وحيدٌ لكل الآثام التي يعاني منها المجتمع، فإن هناك آراء يمكن وصفها بالمتطرفة أيضًا ترى في البعد عن الدين والافتراق عنه طريقًا وحيدًا للتقدم. المفارقةُ أن كلا الفريقين يتفقان في اعتبار الدين المكون الوحيد ـ أو على الأقل الأهم ـ للثقافة السائدة.


يتجاوز التطرف كذلك، بوصفه آليةً لتفسير الواقع والتفاعل معه، مجال الدين ويمتد لبقية مكونات الثقافة من تاريخ وسياسة وفن وعلم وغيرها من المجالات التي تتفاعل فيها الآراء وتشتبك. فعلى سبيل المثال يمكننا أن نرى تطرفًا في الرأي القائل بأن الدولة وما ينتج عنها من مؤسسات وقوانين ونظم هي العائق الأساسي في سبيل تطور الأفراد والمجتمعات. ويرى أصحاب هذا الرأي ضرورة تحجيم سلطات الدولة إلى حدودها الدنيا حفاظًا على حريات الأفراد والمجتمع، ويرون أن المجتمع قادرٌ على حماية نفسه بنفسه وتعديل مساره إذا أصابه انحراف دون حاجة لتدخل الدولة. في المقابل نجد رأيًا متطرفًا آخر يرى في الدولة ووجودها "الحق المطلق". ويؤمن أتباع هذا الرأي بضرورة مساندة الدولة ودعمها، بل والدفاع عن كل ما يصدر منها من قرارات خاطئة أو مصيبة، وذلك لاقتناع أصحاب هذا الرأي بعدم قدرة المجتمع على تسيير أموره بنفسه. وكلٌ من الطرفين بالطبع سيلجأ للواقع لانتقاء الوقائع التي تدعم وجهة نظره.


حتى فيما يتعلق بهوية الوطن ستجد آراءً متطرفة. فهناك من يرون في مصر بلدًا إسلاميًا لا أكثر حيث تتطابق مكوناته التاريخية والاجتماعية (من وجهة نظرهم) مع كل البلاد التي تشاركه العقيدة. وستجد أيضًا من "يثبت" لك هوية مصر الفرعونية الثابتة التي لم تتغير منذ آلاف السنين. ألم نزل نحتفل بشم النسيم ونحيي ذكرى موتانا في الأربعين؟ وفي الفن ستجد التطرف الواقعي الذي لا يرى هدفًا للفن غير الانغماس في مشكلات المجتمع وإبرازها (كأن الناس لا تعرفها)، وستجد تطرف البرج العاجي الذي ينأى بالفن والفنانين عن الواقع ويرى في الفن عالمًا صافيًا من الجمال والمتعة لا يجب تلويثه بحقائق الحياة المزرية.


قِس على ذلك كل شيء. التاريخ والاقتصاد بل والحبُ أيضًا ليسوا جميعًا بمنأى عن التطرف. راجع ما يقال عن رجال من أمثال صلاح الدين الأيوبي أو محمد علي أو عرابي أو جمال عبدالناصر أو السادات أو مبارك. هم إما أنبياء في نظر البعض أو مجرمون في نظر البعض الآخر. وستجد الرأسمالية وآليات السوق الحر وفقًا لأشد نماذجها غلوًا هي السبيل الوحيد لتحقق الإنسانية الحقة لدى بعض الناس، كما ستجد أن تاجرًا بسيطًا يبيع الخردوات في محل قديم هو عدو الإنسانية الأكبر ومصاص دمائها عند آخرين من غلاة اليسار. وسيقول لك البعضُ أنْ لا وجود لحياة "إنسانية" حقيقية لا يزينها الحب بين رجل وامرأة، وستسمع دومًا من يؤكد لك أن الحب ليس خدعة آثمة تخفي وراءها أشد النوازع "الحيوانية" دناءةً وخسة. والكل بالطبع يضرب الأمثلة من الواقع الذي يحتوي كل النماذج.


قد يبدو للقارئ ـ إن هو اتفق مع ما سبق ذكره ـ أن التطرف يحيط بالآراء المعتدلة من كل جانب. لكن الحقيقة قد تكون على خلاف ذلك، وقد يكون الاعتدال هو ما يحاصر التطرف من كل الجوانب. فالمجتمع، على تنوع حظوظ المنتمين له من الاهتمام بالقضايا العامة، لم يعدم قدرته على طرح التساؤلات. لقد أضافت السنوات الأخيرة بما شهدته من اضطراب إلى المواطنين قدرةً رائعة على التوجس من الآراء التي تنحو نحو التطرف أيًا كان نوعه. ولعل من المثير للدهشة أن المواطنين العاديين الراغبين في التوافق "المعتدل" مع واقعهم قد تجاوزوا الاعتماد على ما يطرح أمامهم من آراء إن هي بدت لهم متطرفة في وسائل الإعلام والصحف. الناس أصبحوا أكثر التصاقًا بواقعهم ورغبةً في الدفاع عنه كما يتضح لمن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي وجوهر النقاشات الدائرة فيها. الناس أصبحوا أكثر قناعةً أن التطرف بكل أنواعه لا يستقيم مع الحياة.


لكن الرغبة العارمة في الاعتدال والتوافق لا ينبغي أن ينتج عنها رغبة في إسكات الآراء المتطرفة بغض النظر عن مجالاتها. فالتطرف يلعب دورًا هامًا في شحذ الأذهان وإبقاء الوعي يقظًا. قد يكون الاستماع للآراء المتطرفة والتسامح مع معتنقيها بل والسماح لهم بالترويج لها هو الوسيلة المثلى للحفاظ على الاعتدال. أما الرضوخ لجملة من الآراء التي تبدو واقعية في نظر الناس فقد يؤدي مع الوقت إلى تحول هذه الآراء إلى "حقائق" ثابتة تتسم بالجمود ومنافاة الواقع. فالواقع يتغير في كل لحظة مهما بدا أنه لا يفعل. التطرف بذهابه إلى الحدود القصوى يجذب أطراف الساحة الفكرية إلى مناطق لم ترتادها قبلاً. التطرف يوسع من أرضية الملعب ويمنحنا المساحة اللازمة للمناورة والتراجع والكر والفر. التطرف كالغابة الغامضة المليئة بالأشباح التي تحيط بالوادي المكشوف، لكننا ـ رغم خوفنا من الأشباح ـ علينا أن ندفع حدود الغابة بعيدًا توسعة للوادي وحمايةً لتخومه. الآراء المتطرفة تساعدنا في التقييم الدائم لأفكارنا المعتدلة بناءً على معطيات الواقع. الآراء المتطرفة تذكرنا دومًا بما يمكن أن تكون الأمور عليه إن نحن تكاسلنا عن مناقشتها ومواجهتها. إن إسكات الرأي المتطرف لا يعني ـ كما يثبت لنا التاريخ والواقع ـ أن صاحبه قد تخلى عنه. وقد يكون من الأسلم لنا أن نواجه أشباح الغابة في صورتها القبيحة عن أن نواجهها متنكرةً في هيئة محببة. 


الأفكار المتطرفة تضايقنا، ترهق أعصابنا، تستفزنا، تستهين بنا، بل وكثيرًا ما توجه لعقولنا الإهانات، لكنها أيضًا ترسم لنا حدود الملعب. المتطرفون من كل الاتجاهات في النهاية مثلنا تمامًا. يملكون الحق في الاختلاف، ويملكون الحق في الإعلان عن أفكارهم كما نمتلك نحن ذات الحق. ما لا يحق لهم هو فرض رؤاهم وتصوراتهم علينا بالعنف. فهذا يخرجهم من خانة المتطرفين إلى خانة المجرمين. هنا يصبح القانون وحده هو المنوط به مواجهتهم. وهنا لا يستحقون أي قدر من تعاطفنا أو تسامحنا أو اهتمامنا. 


قد يُثار هنا اعتراض مفاده أن مجتمعنا غير مهيأ بعد لقبول كل الأفكار بينما هو لا زال ينزف من جروح التطرف. وهو اعتراضٌ بالطبع لا يخلو من وجاهة لكن يمكن الرد عليه بأن تهيئة الوعي لا تتأتى إلا من خلال خوض التجارب المؤلمة. وقد يُثار اعتراض آخر مفاده أن "لا حرية لأعداء الحرية"، والرد عليه أن من يتبنى رأيًا مخالفًا للمجموع لا يعتدي على حريتهم، فقط من يحاول فرض رأيه بالعنف هو من يعادي الحرية، حتى لو كان في صف الأغلبية ومعبرًا عنها. إن المجتمع الحذر من السقوط في براثن التطرف ـ مهما كان نوع هذا التطرف ـ هو مجتمع مهيأ تماماً لتقبل كل الأفكار الخطرة. بل لعل لحظة الحذر والترقب التي يحياها واقعنا اليوم هي ما ستمكننا من الانتصار لأفضل ما في هذا الواقع و التغلب على أسوأ ما فيه. فالشجاعة ليست عدم الخوف بقدر ما هي القدرة على مواجهته. السماح بتواجد التطرف بكل سخافاته يبقيه تحت أعيننا دائمًا ويمنحنا القدرة على التدخل في اللحظة الحاسمة. السماح للتطرف بالتواجد يحصره في نطاق ضيق، ويمنحنا عنصر المبادأة.


يرسم لنا التطرف الخطوط الحمراء التي يمكن لأفكارنا (إن نحن سهونا عنها) أن تتجاوزها دون وعي منا في لحظات من النشوة أو اليأس.. تخيل سيدي القارئ اختفاء هذه الخطوط. تخيل الدين بلا متزمتين أو ملحدين، تخيل الاقتصاد بلا يمينيين أو يساريين، تخيل الهوية بلا قوميين أو انعزاليين، تخيل الفن بلا متقعرين أو مبتذلين، وتخيل السياسة بلا متعصبين أو فوضويين. قد يبدو الأمر لمخيلتك أقرب لليوتوبيا الرائعة التي ينعم فيها كل البشر بالسلام والوئام. لكن اليوتوبيات لم تتحقق غير في أذهان الفلاسفة والشعراء وعلى صفحات الكتب. أما في الواقع فكل محاولة لخلق يوتوبيا لم ينتج عنها سوى دكتاتورية متطرفة.