ابـن رُشـد يُقرئ ابن البحيري السلام
ورأيته جالسا في استكانة على ضفة نهر الوادي الكبير في قُرطبة يستظل بظِل شجرة وارفة.. نظرت إليه فإذا به يُسند كتابًا في يده على جَنَب، ويُقبِل نحو الماء العذب أمامه ليتوضأ.. حاولت أن أتنحى يمينًا أو يسارًا كي لا أحرجه أو كي لا يشعر أني أراقبه، فقد كنت بالفعل أتابعه بشغف لم أدر له سببًا واضحًا للآن.
رغمًا عن أني لم أشعر بجسدي أصلا فمررت عبر شجرة وعبر الماء وصعدت لأستند على غصن ثم دنوت لأستقر على الكتاب بيد الرجل الذي يصلي الآن في سكينة.
ما أعرفه عني هو أني بَشر مالي تحولت لمخلوق لا أعرفه؟!.. ربما طائر فراشة نحلة.. لا أعلم يقينا ماهيتي الآن.. وحاولت أن أقاوم فضولي في متابعة الرجل النحيل ذو اللحية الخفيفة أمامي، فلم أستطع لذلك صبرا.. ورحت أراقبه في شغف. تحركت بخفة فوق الجلد السميك الذي يغلف المخطوط الذي لا أعلم هل يقرأه أم يكتُبُه فقد رأيت محبرة في الجوار ربما يكتُبُـه.
حاولت القراءة وقرأت ..
(ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن).
وفي قِطِع آخر قرأت ..
(إن مؤلف هذا الكتاب أكثر الناس عقلا، وهو الذي ألف في علوم المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة وأكملها، وسبب قولي هذا أن جميع الكتب التي ألفت قبل مجيء أرسطو في هذه العلوم لا تستحق جهد التحدث عنها). يا ألله هل صَدَق حدسي؟! هل أقف أمام محمد بن أحمد بن محمد بن رشد؟التفت إليّ بعد أن فَرَغ من صلاته مُبتسما ونظر لعيني مُباشرةً.
كيف يراني.. وأنا لا أرى نفسي أصلا؟ باغتني بابتسامة عّذبة وقال لي مالكِ مُتعجبة يا بنيتي حين رأيتيني أُصلي لله؟
أنا : لا أبدا.. أنا أصلا لا أفتش في النوايا.
هو: ما أنقى فطرتك.. حَسبتك مِمَن ظنوني زنديقا.
أنا: أبدا والله ده أنا حتى بحب حضرتك أوي أوي ومقتنعة بأفكارك جداااا وكتيييييير زيي.
هو: ( يبتسم ) في المستقبل؟ كتبي وأفكاري وصلت إليكم في المستقبل؟ (ويتمتم بصوت خفيض) إذن سيفشل الخليفة المنصور في تضييقه على فكري.. ويطرق في سكون وابتسامة قائلا بالصوت الخفيض ذاته: سأنجح حتما في رفع راية التنوير لتصل أفكاري عبر هذا النهر مُشيرا (لنهرالوادي أمامه).
أنا: ( يبدو عليّ الارتباك) لاء ماهو بصراحة بصراحة (وأتراجع عن البوح).
هو: ما بِك صمتي يا ابنتي؟ لا تخافي.. قولي.
أنا: أصله هاينجح في التضييق على حضرتك فعلا.
هو: ينتبه ويعتدل في جلسته
أنا: آه والله وكتبك هاتتحرق و.... و...
هو: لا تخافي.. أخبريني يا ابنتي.
أنا: ها تتسجـــن وهاتُنفَــــى (أنطقها بسرعة وأصمتُ).
هو: ينهض مُلملما حاجاته مُغلقا محبرته ومُمسكًا بريشته ومخطوطاته والكتابين في الجوار.
أنا: أنا آسفة بس....
هو: يقاطعني.. علام الأسف يا ابنتي إني أعلم، علم اليقين، أن كل من يقف في وجه التخلف لا بد له من دفع ضريبة باهظة الثمن، ولكن بُشراك بوصول أفكاري لمستقبل آتية منه هو نِعم البشري وهو القصد والسبيل.. هل لَكِ أن تُساعديني؟
أنا: (مُتعجبة) طبعااااااا بس إزاي؟
هو : هل لَكِ أن تُسَلمـــي هذه الأوراق لأحد تلامذتي ليقوم بترجمته للاتينية والعبرية أيضا (ويبتسم) كي لا نغير بالتاريخ وتصلكم أفكاري ولا تحترق بفعلة المنصور.
أنا: يااااا الله!! يا له من شرف العظيم.. اين تلميذك يا سيدي؟
هو : بالأحرى هم اثنين يابنيتي واحد يقطن في الخودييرا (مكان سَكَـن اليهود) والآخر بالناعورة وتقع بجوار الجِسر الروماني وأشار بيده موضحًا.. وأردف قائلا: بالمناسبة اقرأي إسلام السلام وقولي له بوركت خُطاك ستصل أفكارك أيضا.. فلا تقلق هي الأقدار تختار رجالها.
أنا : أحملق فيه في دهشــــــة و...
وفجأة أنتبه على صوت زيـاد ابني: يا ماما يا مامااااااااااا عمال اندهلك مش بتردي.
أبتسم وأنا أحاول أن أستفيق من حالتي التي لا أدرك ماهيتها بالضبط.
مُتسائلة في قرارة نفسي هل يخوض المفكر المصري الحر إسلام بحيري نفس الحرب الشعواء التي سبقه إليها كل من تدبر في خلق الله وكلامه وأوامره وشريعته ولم يتبع هوى القطيع البائس؟
لقد وُلِد ابن رشد في 1189 م وها نحن نعتنق ونثمن على أفكاره اليوم وقد سبقنا لذلك البروفيسور لويجي رينالدي في بحثه ( المدنية العربية في الغرب) قال (ومن فضل العرب علينا أنهم هم الذين عرّفونا بكثيرٍ من فلاسفة اليونان، وكانت لهم الأيدي البيضاء على النهضة الفلسفية) فمَن أبقى.. ابن رشد وأفكاره أم الخليفة يعقوب المنصور من قام بسجنه ونفيه وحرق كتبه؟
من أبقي ؟
ليت بوسعي أن أسافر عبر الزمن للمستقبل هذه المرة لأرى أيهم سيذكر التاريخ إسلام بحيري أم من يُجّهلونه ويكفرونه؟
والخلاصـــــــــــــــــــــــة أَن لا أحد يعتبر من التاريخ.. للأفكار أجنحة يا سادة، ولقد تابع إسلام ما بدأه الراحل الشهيد فرج فودة ونصر حامد أبو زيد والعظيم مراد وهبة والأستاذ الجليل سيد القمني خيـــرة رجالات الحق من ألقوا الحجر تلو الآخر في برك التراث الآسنة.
سيبقون ويخلدون جميعا ولن نذكر أو يذكر التاريخ جحافل المهاجمين مهما عَلَت أصواتهم.. لأن ببساطة هي الأقدار تختار رجالها.