عن قمة العرب وقاعهم
تذهب المقولة الإنجليزية إلى أنك عندما تكتشف ارتطامك بصخور القاع فإن الاتجاه الوحيد المتاح هو للأعلى. ولعل هذه المقولة تصف إلى حد كبير الحالة العربية التي دفعت القادة العرب إلى عقد قمتهم الأخيرة بشرم الشيخ. فعلى الرغم من كل مشاعر الأمل والفخر التي يحق للمواطنين العرب أن يعربوا عنها كنتيجة لهذه القمة الهامة، إلاّ أننا لا ينبغي أن ننسى أن عقد هذه القمة السياسية جاء تعبيراً عن الألم الناتج من الارتطام بصخور القاع السياسي ورغبةً في الصعود. لكن صخور القاع الحادة وشعابه الكثيفة وأسماكه المتعطشة لدماء الفرائس ليست سياسية فحسب، كما أن الصعود ـ أو ربما الهروب ـ إلى أعلى قد يتطلب أكثر من توحيد المواقف السياسية والعسكرية الحازمة.
إن الموقف السياسي المعقد الذي يتعين على العرب مواجهته اليوم ليس ناتجاً عن إعصار الفوضى الذي ضرب المنطقة في السنوات الأربع الأخيرة. بل ربما جاء هذا الإعصار كنتيجة حتمية للأوضاع العربية سياسيًا وحضاريًا. فنحن نستطيع أن نلقي باللوم على مخططات غربية لإعادة رسم منطقتنا بما يتوافق مع مصالح الغرب التي تتعدى منطقتنا، ويمكننا أيضًا أن نصب جام غضبنا على إيران وإسرائيل وتركيا وغيرهم من الدول لأطماعهم في التوسع والهيمنة على حساب استقرارنا وأمننا. لكن هذا لا ينفي مسؤولية الثقافة العربية في تجلياتها السياسية عن تهيئة أرضية الملعب، بل وإنارته جيدًا لكل هؤلاء الطامعين.
لقد تمكنت القوى الطامعة في السيطرة على العرب من استمالة جماعات سياسية ودينية وعرقية عربية بعد أن عجزت الأنظمة العربية عن احتواء هذه الجماعات. كذلك عجزت الأنظمة العربية التقليدية عن التقدير الصحيح لحجم هذه الجماعات وما تعبر عنه من أفكار في عالمٍ أصبح من الصعب فيه إخفاءُ الحقائق. والحقيقة أنه كما لا تتفق الشعوب العربية في رؤاها العامة نحو العالم، كذلك لا يتفق أبناء الشعب العربي الواحد في هذه الرؤى. هناك أفكار جديدة وطموحات جديدة دائمة التبلور لدى قطاعات واسعة من المواطنين نتيجة لما تلقوه من تعليم وانفتاح على العالم. كذلك هناك إحباطات قديمة وراسخة لدى قطاعات أخرى ناتجة عن شعور تاريخي بالإقصاء وربما الاضطهاد. وقد لا تكون هذه القطاعات منتمية بالضرورة لأقليات دينية أو عرقية، بل قد تكون أيضًا منتمية لطبقات اجتماعية تعاني من التهميش وقلة الفرص. فنظرية "القلة المندسة" لم تعد قادرةٌ على تفسير الأمور. هناك من يريدون العيش داخل كل مجتمع عربي وفقًا لتصوراتهم الخاصة عن العالم، ولابد من منحهم الفرصة داخل الأطر الشرعية للأنظمة. فالمنطقة العربية بطبيعة تكوينها التاريخي وامتزاج ثقافات الشرق والغرب فيها منذ قرون تعد من أكثر مناطق العالم تنوعا. وإنكار التنوع لا يؤدي إلى التخلص منه كما يصارحنا الواقع الراهن بفجاجة.
الواقع يصارحنا ـ كعرب ـ أن أعماقنا لازالت مسابح مفتوحة للتطرف والطائفية وخلط السياسة بالتاريخ والدين والأحقاد الدفينة. كذلك لازال علينا أن نواجه التحديات المتعلقة بتراجع التعليم في كثير من البلدان، ونراجع الأطر المحددة للثقافة العامة. هناك مشكلات تتعلق بالمرأة والتربية والحريات العامة والخاصة، وعلى العرب إخراج المشكلات للسطح وإلاّ ستتوالى انفجارات الأعماق التي بدأت في السنوات الأربع الأخيرة. فالانفجارات السياسية قد تأتي أحيانًا انعكاسات لأزمات ثقافية وحضارية مضغوطة. ومن لا يجد الدفء في رحاب الوطن الذي يسمح للجميع بالعيش الآمن، سيبحث عنه في مكان آخر أو في أفكار مستوردة أو في انتماءات مفتعلة. بل وسيعمل ما في وسعه للانتقام.
الواقع أيضاً يجبرنا على احترام الفروق الحاسمة بين الثقافات السائدة لدى كل شعب عربي. من حق كل شعب أن ينمو ويتطور وفقاً لآلياته الداخلية النابعة من تاريخه وثقافته الخاصة وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية. فكما أن مصر ليست كتونس كذلك السعودية ليست كمصر والمغرب ليس كسوريا، والعراق رغم كل طائفيته ليس كلبنان. القاع في كل بلد شديد التباين على عكس ما قد تظهر القمم. وكما يتعين على الأنظمة في الدول العربية احترام بعضها البعض، كذلك يتعين على الشعوب إبداء التفهم لثقافاتها المختلفة. وهذا التفهم قد يجعل التوقعات أكثر واقعية، كما قد يؤدي إلى توسيع الأرضية المشتركة بين الشعوب العربية. ولا يفوتنا في هذا الصدد كمصريين أن نواجه أنفسنا بأننا من أقل الشعوب معرفةً بغيرنا، بل لعلنا من أقل الشعوب اهتمامًا بمعرفة الآخرين. فالشقيقة الكبرى ليست من قدمِت للدنيا قبل أشقائها وساهمت في تربيتهم فحسب، لكنها أيضاً من تحتفظ بقدرتها عندما يكبرون على الإنصات لهم والعمل على رأب الصدع بينهم. وذلك لا يتأتى إلاّ بالفهم الدائم لتطلعات الآخرين، وليس بتوقع تأييدهم المستمر في كل القضايا.
لقد طوى التاريخ صفحات الاتهامات العربية المتبادلة بالرجعية والعمالة والخيانة والإلحاد والشمولية، وفتح صفحات أخرى عناوينها الخطر من انهيار الدول والأنظمة العربية دفعةً واحدة، وضرورة التوحد لمجابهة هذا الخطر. القمة العربية الأخيرة تدعو للتفاؤل، لكن لا ينبغي أن يكون تفاؤلنا شبيهًا بتفاؤل من يظن أنه نجا بالفعل من الغرق لأنه لمح ضوء الشمس يتسلل عبر المياه. لازال عليه أن يبذل جهدًا كبيرًا لرفع نفسه لأعلى، والمياه لازالت ثقيلة والسطح لازال بعيدًا.