على طريق الانتقام
من الانتقام إلى التسامح يتوزع الناس على ستة أصناف.
الصنف الأول: يستطيع أن ينتقم وفعلا ينتقم، يؤذيك فتؤذيه كما أذاك. تحاول تقييم درجة الأذى الذي تعرّضت له وتؤذي الشخص المقابل بنفس الدرجة أو أكثر على قاعدة "أرد له الصاع صاعين" أو قاعدة "البادي أظلم".
يقول نيتشه إن "القليل من الانتقام يجعلك إنسانا أكثر من لو لم يكن عندك أي نزعة انتقامية". ويقول أيضا إنه "من المستحيل أن يعاني الإنسان بدون أن يجعل شخصا ما يدفع ثمن هذه المعاناة".
أقوى مقولات الانتقام كانت للملاكم الأمريكي محمد علي كلاي "إذا خسرت معركة ما ستظل تقلقك في البقية الباقية من حياتك. سوف تشغلك إلى أن تنتقم".
قد يكون محمد علي كلاي يتحدث هنا عن الخسارة في الملاكمة فقط، ولكن هذا يعني أنه يأخذ اللعبة بشكل شخصي فينتقم ممن فاز عليه. وقد يكون هنا يصف "الواقع" وليس "المفروض". أي أنه يجد في نفسه الميل الشديد للانتقام، ويعبر عنه كواقع موجود يشعر به وليس كدرس لنتعلمه منه.
في القرآن الكريم الآية 45 من سورة المائدة تقول: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ? فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ? وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). هذه الآية نزلت في وصف شريعة اليهود، وكيف أنهم لم يطبقوها. لذلك لا يصح الاستدلال بها في التعامل بين المسلمين. وإن كان ظاهر الآية يوحي بالدعوة للانتقام، ولكنها في الحقيقة تتحدث عن التشريعات والقوانين (ما الذي سيحكم به القاضي في المحكمة) وليس عن الانتقام.
هناك فرقٌ كبير بين "الانتقام" و"التأديب". قد يُسىء لك شخص وتصر على عقابه، ليس لأنك تريد الانتقام، ولكن لأنك ترى في العقوبة درسا له أو لغيره (تأديب وليس انتقاما). القاضي حين يُعاقب المجرمين فإنه لا ينتقم منهم، ولكنه يؤدبهم لتستمر الحياة على الأرض. تقول إليزابيث فراي "العقوبة ليست انتقاما ولكن لتقليل الجريمة وإصلاح المجرمين".
الصنف الثاني من البشر هو من يريد الانتقام ولكنّه لا يستطيع. وهذا أكثر الأنواع مأساوية، ضعفه يمنعه من الانتقام، خوفا أو عجزا. عجزه يولد في داخله قهرا وحقدا، فيتضخم قلبه ويسود ويختل توازن حياته وقد يخسر احترامه لنفسه وينقم على ضعفه.
الصنف الثالث هو من يريد أن ينتقم ولكنه يقاوم هذا الشعور ويحاول إظهار التسامح.
إذا كان من المؤمنين فسيظهر التسامح رغبةً في الأجر. الآية 126 من سورة النحل وصفت هذا الصنف بوضوح، قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ? وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). "وإن" في بداية الآية تعني أنه ليس من الضروري أن ننتقم، ولكن إن كان ولا بد ننتقم بنفس قدر الضرر. و"لئن صبرتم" تعني أنه من الأفضل لنا أن نصبر على الضرر ولا ننتقم. ولكن الصبر يحتوي ضمنيا على قهر، الصابر يعني أنه يعاني ومقهور، ولكنه يتحمل لنيل الأجر، وهو مختلف تماما عن المسامح الراضي حتى ولو لم ينل أجرا.
البعض يُظهر التسامح لأنه يعتقد أن في الانتقام ضررا لنفسه قبل الشخص المقابل. مثلاً يقول سأترفع عن الرد أو ردي يجعلني سيئا مثله، أو يترك الانتقام حفاظا على وقته وأعصابه. يقول دوقلاس هورتون "في أثناء سعيك للانتقام أحفر قبرين واحد منهما لك". ويقول نيتشه "حين تحارب الوحش انتبه أن لا تتحول نفسك إلى وحش".
الشخص من هذا الصنف لم يسامح ولكنه أظهر التسامح والفرق بينهما كبير. "التسامح" يكون عميق ويلازمه تجاوز تام بينما "إظهار التسامح" ليس معه تجاوز وتظل الحادثة في قلب صاحبها يحملها معه ويعاني منها عبر حياته (لربما كان الانتقام أفضل في هذه الحالة).
الصنف الرابع هو الإيجابي الذي يحاول توظيف طاقة الانتقام بشكل مفيد. يقول فرانك سنتارا "أفضل الانتقام هو أن تنجح نجاحا عظيما". بعضهم يُظهر السعادة لينتقم ممن يحاول إتعاسه فيُفشل خطته. توظيف طاقة الانتقام بهذا الشكل لا يُمثل الوعي العالي تماما ولكنه لا شك مفيد ودليل على الذكاء (الذكاء وليس الوعي). يقول فوانثون أناند "إذا كان الانتقام يحفزك، استخدمه! ولكن أهم شيء أن تنظم لعبتك". كما نرى الشخص في هذا التصنيف يعتقد أن الحياة لعبة أو معركة ويحاول لعبها بذكاء ليفوز.
الصنف الخامس لا يسامح وأيضا لا ينتقم. هذا النوع يتجاوز، ولكن دون مسامحة لأن عنده إيمان بأن الله سبحانه المنتقم الجبار لا يظلم وسينتقم له إن عاجلاً أم آجلاً.
الصنف السادس والأخير هو الشخص الذي يسامح مسامحة حقيقية، ثم يتجاوز تماماً فلا يظل في نفسه شيء. يتفاضل الناس في هذا الصنف في سرعة مسامحتهم وتجاوزهم. البعض يسامح ويتجاوز في لحظتها والبعض الآخر يحتاج وقتا.
ربما نيلسون مانديلا يقع في هذا التصنيف، بالرغم من أنه سُجن 27 عاما، ضاع فيها شبابه، إلا أنه سامح واستمر في نشر قيم التسامح والحب. أيضا غاندي قال "إذا أخذنا عينا مقابل عين سننتهي بأن نجعل كل العالم عميانا".
في البوذية الانتقام مرفوض لأن المطلوب مساعدة الشخص السيئ (المؤذي) ليكون جيدا وليس الانتقام منه، يقول الديلاي لاما: "يجب ألا نسعى للانتقام ممن آذونا، ولا أن نرد على جريمتهم بجريمة. يجب أن نرى ذلك عبر قانون الكارما، هؤلاء في خطر أن يتسبب لهم ذلك أن يعيشوا حياة وضيعة سيئة، ومن واجبنا تجاههم وتجاه كل كائن، أن نساعدهم بأن يتقدموا تجاه الخلاص (النيرفانا)، بدلا أن نتركهم فيغرقوا إلى مستويات منخفضة (rebirth)".
في الإنسان نزعات قديمة قد نعتقد أنها أساسية ومن طبيعته مثل الانتقام، ولكن الواقع يقول أن بعض البشر ارتفع وعيه واستطاع التخلص منها تماما. يعني أنها ليست أساسية ولكن انتشارها جعلنا نعتقد أنها أساسية. ربما مع مرور الزمن سيرتفع الوعي أكثر وأكثر وسيزداد عدد المسامحين المتجاوزين (مسامحة حقيقية) وسيقل عدد المنتقمين؛ حتى تبدو صفة التسامح هي الصفة الأساسية.
الانتقام مصنف من ضمن "ردات الأفعال" وليس من ضمن "الأفعال". أن تتصرف على ضوء ردات الأفعال يعني أن تترك غيرك يوجهك ويقود حياتك. انقياد الإنسان لغيره هو مرحلة يمر فيها أغلب البشر في رحلة الوعي. أعلى سلم الوعي هو أن تمسك زمام حياتك بنفسك وبشكل كامل فلا تصدر منك إلا أفعال تقررها بنفسك.
أخيرا أقول: الحياة ليست لعبة ولا معركة نتنافس فيها، فكلنا مساكين أنا وأنت وأنت أنا. في الماضي كانت الحياة غابة ثم أصبحت لعبة (أو معركة) وفي الحقبة الجديدة يجب أن تسعنا جميعا، نتكاتف ولا نتنافس، كما يفعل الطبيب الأوروبي الغني (غير المؤمن) حين يترك ماله وعياله وحياته الرغيدة ويذهب إلى إفريقيا ليتعامل مع مرض الإيبولا القاتل!