171 عاما على رحيل سيدهم بشاي.. للتعصب الديني ضحايا
لم تكن أبدا تهمة "إزدراء الأديان" أو "إزدراء الدين الإسلامي" بالتحديد تهمة مستحدثة، فكما هي حتى الآن كفيلة بتدمير حياة إنسان وأسرته بالكامل، حتى وإن ظهرت براءته فيما بعد، لا سيما إذا كان سكنه في القرى أو المناطق العشوائية، هكذا أيضا استطاعت هذه التهمة أن تودي بحياة سيدهم بشاي، الذي تحل ذكرى مقتله الـ171 اليوم. ومازالت تلك الحادثة عالقة في ذهن العديد من الأقباط حتى الآن.
تاجر أخشاب
كان سيدهم بشاي الذي ولد في عام 1785، رئيسا لشمامسة كنيسة مارجرجس بدمياط، وكان يعمل تاجرا للأخشاب بثغر الإسكندرية، ويسافر لشراء الأخشاب من دمياط.، فيما كانت دمياط في ذلك الوقت معروفة بالتمييز ضد الأجانب والأقليات الدينية، لكونها مقرا دائما لسجن الأجانب والمنفيين منهم، فكان هناك انطباعا لدى العامة بالقرى أن الأقباط موالين للأجانب "الصليبيين"، وحدث أكثر من مرة حادثة مضايقات المسيحيين، إلا أنها كانت لا تعلوا مجرد الأذى اللفظي أو الاحتكاك العادي.
احتكاك بالشارع
كان سيدهم في طريقه إلى الكنيسة، إذ أستوقفه أحد الأشخاص محاولا استفزازه بالشتائم، فلم يعبأ "بشاي" محاولا المرور، ما أثار سخطه وأمتد الاحتكاك للشتائم والضرب وصاح ذلك الشخص متهما أياه بسب الدين الإسلامي الأمر الذي أثار عددا من الأهالي. وتصادف في ذلك الوقت مرور مفتي البلدة الشيخ علي خفاجة، الذي أشعل حماسهم، فطلب منهم الذهاب للقاضي الشرعي للشهادة عليه، وأثناء ذهابه إلى هناك كان قد نال "سيدهم" من الضرب ما جعله يفقد الوعي لدرجة أن حاول صديقه المدعو بانوب فرح إبراهيم، إنقاذه من أيديهم، إلا أنه نال نصيبا أكبر من الضرب جعله ملازما للفراش حتى فارق الحياة، وتذكر المخطوطة التي أرخت لقصة سيدهم أن "بانوب" صديقه كان لايزال مريضا بالفراش وقت كتابتها.
حكم بالإعدام
ذهبت الجموع الغاضبة التي لم تشاهد الحادثة من الأساس إلى القاضي شاهدين عليه، بأنه قد سب الإسلام ورسوله، فقال القاضي أن عقوبته الإعدام ولكنه سيخيره بين الإعدام أو الدخول في الإسلام لعله يشفع له، فرفض سيدهم، وأنقض عليه الجمع بالضرب بالمبرح الذي أصابه بالنزيف، حتى أمر القاضي بعرضه على المحافظة والمشايخ، وأثناء ذلك اليوم يذكر المؤرخون أنه كان يوما عصيبا على أقباط القرية، ولم يخرج قبطي واحد من بيته بدمياط.
وجاءت الجموع بسيدهم المكبل بالسلاسل، والذي لم يشف بعد من جروجه، إلى ديوان المحافظة، إذ اجتمع محافظ الثغر في ذلك الوقت المدعو خليل بك أغا، والمفتي علي خفاجي، ونقيب الأشراف السيد يوسف والشيخ البدري والقاضي، وآخرين في جلسة حكم عليه بالإعدام وسط الجموع التي هللت، فأخذوه جرا من على سلم المحافظة وحكموا عليه بالجلد 500 جلدة قبل قتله، ليكون عبرة أمام الجميع.
الموت البطئ
تركوا جسده لأيام وأسرته لا تسطيع الاقتراب منه، وهو بين الحياة والموت، خوفا من البطش بهم، وكان كلما فاق سيدهم أنهالوا عليه بالضرب، وفي اليوم الرابع جردوه من ثيابه وأخذوا يجروه في الطين ملطخين كل جسده بالروث، وألبسوه ثيباب الخروف الملطخة بالدماء، ثم جاءوا بكلبين لنهشوا بعضا من لحمه، ثم أركبوه جاموسة بوضع مقلوب وزفوه بطرقات القرية، حتى قضوا عليه بسكب زيت مغلي على جسده، فمات حرقا بعد أن تركوه يموت أمام بيت منزله الذين لم يستطيعوا أن يخلصوه خوفا من التعرض لنفس الأذى، ومازالت آثار الحرق بالزيت موجودة على جسده حتى الآن.
جثمان سيدهم بشاي الآن أثناء تطيبه بالزيوت العطرية بمطرانية دمياط
غضب الخديوي
كان وقت محمد علي، يمثل إنفراجة بالنسبة للأقباط، إذ عادت على يده المواطنة، بعد غيابها لقرون في ظل دولة الخلافة، فكانت حادثة مقتل سيدهم بشاي، انتكاسة لكل ذلك، فاستطاع هول وبشاعة الحدث أن يصل لقناصل الدول الموجودين وبالتالي للخديوي الذي أرسل مندوبا رسميا للتحقيق وبمحاسبة كل من تورط في ذلك الفعل، فأمر بعزل المحافظ علي بك آغا، والقاضي الذي حرض الغوغاء على قتله، وسمح للأقباط أن يرفعوا الصليب في جنازة سيدهم بشاي لأول مرة في التاريخ، بعدما كان ممنوع رفعه في ظل دولة الخلافة، كما سُمح للمسيحيين بإجراء توسيعات بكنيسة مارجرجس تعوضيا على ما حدث.
تخليد ذكراه
قررت الكنيسة القبطية الأرثوكسية، الاهتمام بتخليد ذكراه وتأريخ الأحداث بالأسماء، إذ عاصر تلك القصة العديد من الناس منهم القمص جرجس حنا يوسف والمعلم تكلا، وقد قرر المجمع المقدس للكنيسة القبطية في 8 يونيو 1987 برئاسة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل، تسجيل اسمه باعتباره شهيدا وقديسا من قديسي الكنيسة، وتحرص مطرانية دمياط كل عام على إخراج جثمانه وتطييبه بالزيوت العطرية إكراما له كما اعتاد تقليد الكنيسة، لا سيما بعدما رؤوه لم يتحلل.