وداعا بونابرت.. وداعا صلاح الدين!
رغم أن الفرنسي الأشهر في القرن التاسع عشر لم تدم إقامته بمصر لأكثر من عام واحد وعدة أسابيع، إلاّ أن ذكرى الرجل لا تزال حيةً في الذاكرة الوطنية بعد مرور أكثر من قرنين على رحيله عن مصر على متن سفينة صغيرة أخفاها الضباب عن عيون الإنجليز. يظل بونابرت بدحره للمماليك في أقل من ساعة في معركة بولاق رمزًا للفجوة العسكرية والحضارية. كما يظل بونابرت بمنشوره الذي ادعى فيه احترامه لديانة المصريين ونبي الإسلام ومجيئه لتخليص مصر من حكم المماليك رمزًا للاستهانة المهينة بعقول المصريين.
لقد جاء بونابرت لمصر وهو على قناعة كاملة برأي وزير خارجية حكومة الإدارة الفرنسية الطموح، مسيو تاليران، والذي كان يقضي بضرورة استيلاء فرنسا على مصر وسهولة تلك المهمة. فلقد أقنع هذا الوزير زملاءه في فرنسا "الشابة" أن المصريين يئنون من فوضى المماليك وسلبية العثمانيين. فقد نظر تاليران إلى المصريين كشعب زراعي ومتدين يسهل إبهاره وترويعه. ربما لم يكن تاليران مخطئًا تمامًا في تقديراته. فلقد انبهر المصريون بالفرنسيين ورهبوا جانبهم. نعم، كانت الفجوة أكبر مما تخيل أجدادنا عندما قابلوا تحذير الإنجليز لحاكم الإسكندرية بخطة بونابرت لغزو المدينة باستهانة ساذجة. فلقد كانت ثقتهم في قدرة فرسان المماليك على تلقين الفرنسيين درسًا قاسيًا نابعةً من الماضي لا من الحاضر. فآخر محاولة قام بها "الفرنجة" لغزو مصر أسفرت عن وقوع ملكهم "القديس لويس" في الأسر واضطراره لسداد الفدية ليتمكن من العودة لبلاده كأي محارب من العامة. لكن ما فاتهم أن العالم كان قد تغير تماماً في القرون الستة التي فصلت بين حملة لويس التاسع التي أتت في منتصف القرن الثالث عشر وحملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر.
لم يكن الفرنسيون القادمون على سفن تحمل الجنود والمدافع والمطبعة والخرائط والأدوات المعملية "فرنجة". كانوا أبناء فرنسا الدولة الحديثة الطامعة لتكوين إمبراطورية عظمى. لم يأتِ الفرنسيون ليخوضوا جولةً جديدة ً من الحروب الصليبية بين المسيحية والإسلام. بل جاءوا محملين بفلسفة معاديةً للدين في عمومها، ليخوضوا جولةً هامةً في حربهم ضد بريطانيا. فلقد أراد بونابرت تطويق الإنجليز وقطع سبلهم مع الهند قبل أن ينقض عليهم في عقر دارهم. وإن تشابهت بعض غايات بونابرت مع غايات لويس التاسع في الاستيلاء على ثروة مصر وموقعها، إلا أن الوسائل كانت قد تغيرت تماما. من هنا جاءت الصدمة، ومن الصدمات المتتالية تولدت العقدة.
رحل الجنرال الشاب ليلحق بالمجد في باريس، وتمكن الإنجليز بمعاونة العثمانيين من إجبار كليبر على الرحيل الذليل عن مصر. ربما بدا ذلك في أعين من عاشوا في ذلك العصر انتصارا. رحل الفرنسيون حقا لكن بعد أن وضعوا مصر والشرق أمام الحقائق الحزينة. استوعب محمد علي بعض هذه الحقائق فسعى لتقليل الفجوة بين مصر والغرب. أنشأ الجيش الحديث وأرسل البعثات واستقدم الخبراء الأجانب وافتتح العديد من المصانع والمدارس على الأنماط الأوروبية عامةً والفرنسية على وجه الخصوص. كان مولعاً ببونابرت وراغباً في إنشاء إمبراطورية مركزها مصر. نجح إلى حد كبير في استغلال الظروف المواتية وصراع أوروبا الداخلي وحرصها على تطويق العثمانيين دون إسقاطهم. بدت الأمور واعدة لسنوات طويلة، لكن الجيوش القوية لا تكفي وحدها لبناء الحضارة. ربما تسرع محمد علي كثيرا. ومع الهزيمة المدوية تكرّست أكثر وأكثر عقدة "الخواجة". هو ليس أقوى منا وأكثر تحضرًا فحسب، لكنه يقف حجر عثرة كؤود في سبيلنا.
حاول إسماعيل ثانية بإخلاص وحسن نوايا تجاه الأوروبيين. أراد دون مواربة أن يجعل مصر قطعة من أوربا. لكن الفجوة كانت آخذة في الاتساع بينما بدت وكأنها تضيق. عزلوه في غطرسة لعينة وبعدها بقليل احتل الانجليز مصر في لحظة كانت تظن فيها أنها ستواكب العصر. عاد بونابرت منتصراً في ثياب الإنجليز. وانهزم عرابي في كفر الدوار وانهزم معه الوعي المصري الآمل في الفكاك من الغرب. لم تنجح محاولات محمد علي وإسماعيل نحو التحديث في درء الهزيمة. صدمة جديدة أمام الغرب الذي أجاد استغلال نقاط الضعف.
هدأت مصر وبدا أنها قد رضيت وارتضت. لكن طول التعامل مع الاحتلال الإنجليزي وجها لوجه في الدواوين والمدارس علّم المصريين ـ رغمًا عنه وعنهم ـ أن الغرب الذي يثبت في كل يوم تفوقه يمكن مقاومته. انتشرت أفكار حديثة وظهر وعي جديد وتشكلت طبقة جديدة تتحدث عن مصر بلغة الغرب. بات الاستقلال مشروعًا وواجبًا. واتت مصر الفرصة وأوروبا منهكة بعد حربها الكبرى الأولى فاندلعت ثورة 1919. لم يرحل الإنجليز لكن ربحت مصر ملكًا ودستورًا وبرلمانًا واعترافًا. أصبحت مصر بين نارين. نار حاجتها للغرب لكي تقوم وتتقدم، ونار استغلاله لها وغطرسته المهينة.
ظهر في الغرب بونابرت ثانيةً في ثوب هتلر الذي أنهك القارة العجوز وجعلها غير قادرة على التمسك بالأفكار القديمة. وفي مفارقة ساخرة يخرج المصريون ليعلنوا عن رغبتهم في استبدال محتل بآخر.. "تقدم يا روميل". انقسمت مصر بين رغبتها في رحيل الإنجليز وخوفها من بطش الألمان. وكما أعلن نابليون احترامه للإسلام ونبيه، وجد المصريون من يشيع بينهم أن هتلر مسلم!
انتهت الحرب في الغرب وانتهى معها الاستعمار التقليدي. صعدت القوى الجديدة في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على أكتاف أوروبا المنهكة. وفي مصر وقعت الواقعة. ضباط "مصريون" يزيحون الملك ويستولون على الحكم. لا يطلق الإنجليز نحوهم رصاصةً واحدة ولا يحمون حليفهم القديم. تعترف أمريكا بالضباط وتبارك سعيهم. وفي تسارع مجنون يلغون الأحزاب، يعيدون تقسيم الأرض، الإنجليز يرحلون عن القناة، يؤمم ناصر القناة، يحاول نابليون العودة في العدوان الثلاثي، يقف له العالم بالمرصاد، مصر تستعيد القناة وتبدو وكأنها هزمت الغرب. آلاف المدارس تُفتح، آلاف المصانع تُبنى، كتاب كل ساعة تخرجه المطابع، مصر تنتج من الإبرة للصاروخ، السلاح يتدفق من السوفيت ومن مصانع الجيش، مصر تقود التحرر في العالم، إفريقيا تتحرر، الجزائر بدعم من مصر تنتصر على بونابرت!!
ملأ الهتاف الحناجر، ملأت الثقة القلوب، ها هو ناصر ينتصر، ها هو سعد زغلول ينتصر، عرابي ينتصر، محمد علي ينتصر، ها هي مصر تثأر لتاريخها الطويل.. هاهو يعود صلاح الدين! هاهو الشرق يدحر الصليبيين كما دحرهم لأول مرة على يد بطل حطين المظفر. هاهو المنتصر القديم يطل من كتب التاريخ القديمة ليعلن عن قدوم المستقبل. في كل شبر في الشرق الأوسط معركة مع الغرب وأتباعه سيُكتب لصلاح الدين النصر فيها. لم يعد العالم مناطق ونفوذ ومصالح معقدة ومتشابكة بل هو ميدان معركة فسيح. غلبت الأسطورة التاريخ فغلب الواقع الحلم.. سقط ناصر، لكن صلاح الدين لم يسقط.
تحول صلاح الدين بفعل الإحباطات المتتالية والصدمات القاسية من حاكم استولى على مصر في القرون الوسطى من يد الفاطميين، وقاتل الصليبيين مرات وتعاون معهم مرات كما يليق بأي حاكم واقعي، تحول إلى رمز للعداء الثابت والراسخ بين الشرق والغرب والذي سيُكتب للعرب في نهايته النصر. حتى انتصار مصر في حرب أكتوبر ومحاولتها إحلال السلام الدائم في المنطقة لم يكن كافياً لنزع المرارة من القلوب ومن على الألسنة. استثمرت تيارات الإسلام السياسي تلك المرارة في تكريس العداء مع الدولة التي تصادق الغرب، بينما تقوم تلك التيارات بالعمالة له سرًا. بنت أنظمة عربية أقل ما توصف به هو الاستبداد والتخلف شرعيتها على هذا العداء وسارت في طريقه سيراً أخرق ظانةً أن صلاح الدين يقف في نهايته ملوحًا. ومع اتساع الفجوة مئات المرات عنها في عصر بونابرت بات كثيرون في مصر على يقين أن كل جهد للنهوض لا ينبغي أن يكون له غير هدف واحد.. خوض المعركة المصيرية الأخيرة ضد الغرب. هناك دائماً تحدٍ كامن في ثنايا العقل. هذا اليقينٌ لا يوجد ما يسوغه سوى عقدة الشعور بالنقص. ويتجلى هذا الشعور أكثر ما يتجلى في اصرارنا الدائم على تأكيد تفوقنا الأخلاقي والديني بل والتاريخي عليه. أصبحنا كالتاجر الذي يفتش في دفاتره القديمة إذا حل به الإفلاس، رغم أننا لسنا مفلسين بالضرورة.
لقد حملت لنا السنوات الأخيرة حقيقتين. الحقيقة الأولى هي أنه مهما كان تفوق الغرب علينا جليًا وواضحًا، فإنّ ذلك لا يعني انتفاء قدرتنا على اتخاذ القرارات التي تصب في صالحنا وعلى تحمل تبعات قراراتنا. هيهات أن تقع مصر في يد بونابرت آخر. فقد علمنا التاريخ كما علمهم كذلك، وربما بقدر أكبر. الحقيقة الثانية التي لا يجب أن نغض الطرف عنها هي أن العداء التاريخي الثابت بيننا وبين أي أمة أو شعب أو فكرة أو معتقد قد لا يعبر عن قدر لا فكاك منه بقدر ما يعكس مخاوفًا يظل بعضها مشروعًا. وقد تكون الطريقة المثلى لعلاج المخاوف هو مواجهتها مباشرةً وليس من وراء أسوار عالية تحجب الرؤية كأسوار قلعة صلاح الدين. إن مؤشرات كثيرة اليوم تدل على أن مصر عازمةٌ على التخلص من عقد تاريخية عديدة طالما كبلت مسيرتها وأعاقت نهضتها، ولعل أهم عقدتين علينا التخلص منهما هو الانبهار المفرط بالغرب واحتقاره في صلف.