القمتان.. والاستثمار في الأمن القومي والعروبة !
(1)
يُخطئ من يتصور أن فورات الربيع العربي كان مقصودا بها فقط تنفيذ مخطط أمريكي بإسقاط النظم القائمة وتقسيم الدول إلى دويلات وإمارات.. هذا كان جزءا من الخُطة.. لكن المؤامرة كانت أكبر من ذلك.. ببساطة أرادوا طمس الهوية العربية وتفكيك القوى العسكرية بالمنطقة لصالح إسرائيل.. بدأوا بالعراق الذي كان أقوى الجيوش ثم سوريا وطمعوا في الثمرة الكبرى مصر لولا يقظة المؤسسة العسكرية والرئيس السيسى وانتفاضة الشعب ضد المتأسلمين في 30 يونيو.
المخابرات المركزية أصدرت مؤخرا تقريرا يقول إن التمهيد للربيع العربي جاء من داخل الدول العربية نفسها، بعد نشوء 3 أزمات، حيث تراجعت عقيدة الحكم من العروبة إلى "التفرنج"، كما فقدت الجامعة العربية ومؤسساتها الرضا القومي العام شعوبا وحكومات، بالإضافة إلى أزمة أقوى وهو اختراق فارسي واسع الشأن وعميق الاّثر في بعض الدول العربية، وسيطرته على مقدراتها الداخلية والخارجية ( سوريا والعراق ولبنان واليمن ).
تصورت واشنطن أن العوامل السابقة تمهد الطريق لنظام بديل هو "الإسلاموجية " الذين سيبدون أكثر طوعًا وانفتاحا للتعامل مع إسرائيل مثل تركيا وقطر.. من ثم فإن الأزمات الثلاث خلقت ما يمكن وصفه – نظريا – بالنظام البديل، والذي نجح طائفيا فى سوريا والعراق ولبنان وإرهابيا في ليبيا واليمن.
من هنا كان حتميا على مصر أن تحيى الإيمان بالقومية العربية والدفاع العربي المشترك والتلاحم الاقتصادي.. مصر استحضرت من ذاكرتها القريبة حرب 73 التى توحد فيها العرب سلاحا وإقتصادا وسياسة في مواجهة العدو .. من يومها وأمريكا تضع نصب عينيها محاصرة البترول، وإضعاف الجيوش العربية وتقسيم المنطقة.
نجح مؤتمر القمة الاقتصادي الذي عقدته مصر فى شرم الشيخ بامتياز، وصدّرت للعالم كله كيف إذا أراد العرب فعلوا، وإذا خططت القاهرة لبى العالم، واستجاب لرمانة الميزان في الشرق الأوسط وإفريقيا.
بعثت "شرم الشيخ" تلك المدينة السياحية الرائعة، برسالة واضحة فهمها العرب فورا.. الاستثمار في مصر هو استثمار لحماية الأمن القومي العربي.. واضطرت أمريكا التس مازالت تتحفظ على الحكم في مصر إلى القول إنها ستساعد على استقرار مصر، وإن كان وزير خارجيتها ارتكب زلة لسان، أفصحت عما في قلبه عندما تحدث عن أمن إسرائيل بدلا من الإشارة لمصر.
القمة الاقتصادية الناجحة في مصر أكدت على مفهوم هام، وهو أن عقيدة العروبة عادت إلى النظم العربية كمفهوم أيدولوجي، يستنفر المخزون التاريخي والإستراتيجي للحماية الاقتصادية والدفاع عن مقوماتها من موقع جغرافي وممرات ملاحية وبترول ومعادن وسياحة وغير ذلك.
( 2)
القمة الثانية الهامة التي تعقد بالقاهرة هي القمة العربية، التي يأتي على جدول أعمالها مشروع الدفاع العربي المشترك.. مشروع عربي صرف التمويل تمويلا وتسليحا وقيادة.. مشروع يؤكد الهوية القومية العربية التى كادت تتآكل بفعل الأزمات الثلاث التي سقتها فى مقدمة المقال.. هذا المشروع فضلا عن أنه يناهض الإرهاب، إلا أنه أيضا يواجه القوى المتحالفة المتحكمة فى المنطقة وتفاعلاتها، وهى " إسلاموية " التوجه سواء دولا أو أحزابا أو عصابات.
هؤلاء نجحوا في جعل التشدد والتطرف الفكري والإرهاب سطوا تلهب به ظهر الأمة العربية وإجباراها على الكفر بعروبتها وتتوسل العون من الخارج.. وأعطت لأمريكا والغرب ألف ذريعة لتقول لنا هذه بضاعتكم ردت إليكم ولا شأن لنا بكم.. إنه إرهابكم خرج من بين ظهرانيكم وهو مسؤوليتكم.. وهكذا ألقى " الإسلاموجية " مصيبتين علينا.. الترويع والقتل وعقوبات الغرب وانتقاده لحقوق الإنسان في وقت لا يتحدث فيه أحد عن المجازر التي تسيل فيها الدماء أنهارا في الدول العربية.
( 3)
إن مصر وهي تستعد لهذا المؤتمر، وتسعى لتمرير مشروعها عن تشكيل قوة دفاع عربي مشترك يهمها أن تصفو الأجواء العربية والإقليمية، وتتوقف الدول الكبرى عن التدخلات في سياسات دول المنطقة.. وكلها عوامل ربما تعوق تشكيل قوة الدفاع العربي المشترك، لكن ربما تكون هناك عوامل أخرى اكثر أهمية ودعونى أشرحها.
الشائع فى الأوساط الإعلامية العربية وأوساط دبلوماسية وقيادات سياسية، أن المطروح على الساحتين العربية والإقليمية اقتراحان، اقتراح صار معلنا، وهو الذي سيعرض على القمة العربية في اجتماعها خلال أيام، هذا الاقتراح معني بإنشاء قوة مسلحة عربية لحماية الأمن القومي العربي، وتكون تحت إشراف جامعة الدول العربية.. واقتراح تحت الدراسة لإنشاء حلف عسكري إقليمي يضم قوات من دول عربية ومن تركيا، يتولى المهمة ذاتها أي يتولى مسؤولية مواجهة الإرهاب وأى أخطار أخرى محتملة مثل خطر إيران، دولة الجوار الثانية، ثم خرج من يقول "الاقتراحان مكملان لبعضهما البعض، فالأول لحماية المنطقة من الإرهاب، والثانى لحماية دول عربية معينة من إيران، وهناك من الأموال والجنود ما يكفى لمواجهتين في وقت واحد".
مصر وهي القطب المنحدر نفوذه الإقليمى تتحمس للأول ولا تتحمس للثاني.. ودول أخرى تتحمس للثاني خوفا من تغلغل النفوذ المذهبي في الجزيرة والمشرق، وتعتقد هذه الدول فيما يبدو أن تركيا أقدر من أي دولة عربية على قيادة هذا الحلف العسكري، ومن الممكن خلق مصالح لها وحوافز تشجعها على تولى هذا الدور.
لا يحتاج الأمر لخبرة طويلة في العمل العربي المشترك للحكم مقدما بأن المفاوضات حول الاقتراحين ستكون شاقة، فالمصريون لن يرضوا القيام بعمل عربي بقيادة تركية وبأهداف تخدم توجهات الحزب الإسلامى الحاكم فيها، والأتراك لن يقبلوا بأقل من قيادة منفردة، تراعي الهوية المثلثة للسياسة الخارجية التركية كما حددها رئيس وزرائها الحالي، وهي " أوروبية .. إسلامية .. تركية".
من ناحية أخرى لن تكون إيران سعيدة بحلف عسكري عربي تركي يكون موجها ضدها، وأظن أنها لن تتأخر في التعبير عن نقص سعادتها بتكثيف علاقاتها وتدخلاتها الأمنية في كل موقع وصلت إليه واحتلال مواقع جديدة.. إيران تشعر بأنها مرشحة للعب أدوار إقليمية سوف تسمح لها بأن تتقدم على تركيا فى المكانة الاستراتيجية عند أمريكا والغرب عموما، تشعر أيضا بأن علاقاتها بتركيا أعمق وأشد تداخلا من أن تؤثر فيها أوضاع وسياسات عربية أو أمريكية.
لا أظن أن قيادة عسكرية مصرية أو سورية إن وجدت، أو عراقية ستقبل بالعودة إلى "تتريك" الأمن القومي العربي، ولا أظن أن العقل العسكري التركى سيتقبل المشاركة مع عسكريين من مصر أو سوريا أو العراق أو السودان فى قيادة جيش إقيليمي يواجه به إيران، أتوقع معارضات شاقة لجهود تمرير المشروع " العربي " للأمن القومي، ومعارضات أشد لجهود تمرير المشروع " التركى " للأمن القومي الإقليمي ونشاط غربى مكتف للتوفيق بين المشروعين.
لقد وضعت مصر والإمارات والسعودية والكويت ودول عربية كثيرة أصبعها على الجرح ووصفت الدواء المر، وبقي أن تتقبله وتشربه لتعود لها هويتها العربية وأمنها واستقرارها ورخاؤها.