التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:33 ص , بتوقيت القاهرة

مصر المستقبل: ما التعليم إلا سلعة!

في حوار مع توني بلير، ضمن أنشطة المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، سئل عن أهم ما تحتاجه مصر - وإفريقيا - حاليا. وكانت إجابته: تعليم مناسب للقرن الواحد والعشرين. 


تحدثت أمس عن أهمية الاستثمار في مجال الطاقة، كونها تربة التنمية. وأهمية أن تتحول الطاقة إلى قيمتها الحقيقية كسبيل وحيد لترشيد استخدامها. نفس المنطق السياسي يجب أن ننظر به إلى التعليم، بعد كل هذا الفشل الذريع لتجربة التعليم المجاني الشامل. 


تشجيع الاستثمار في مجال التعليم، بلا حدود، هو السبيل الوحيد لإخضاع هذه السلعة المهمة جدا للعرض والطلب، وبالتالي تحقيق قيمتها الحقيقية. 



ونعم.


التعليم سلعة. ليس عملا خيريا إلا لو شاء أفراد أن يفعلوا ذلك. التعليم يقدم أهم المهارات التي يحتاجها البشر حاليا في المنافسة على الإنتاج. ليس فقط التعليم العلمي، بل أيضا التعليم الحرفي، الذي يصنع بشرا مؤهلين للتعامل مع وسائل إنتاج القرن الواحد والعشرين. وهي ليست القدرة على إجراء عمليات حسابية ولا الفأس والشادوف. بل مفردات وتفاصيل ثورة الاتصالات في مستوى، والقدرة على التعامل مع وسائل ومعايير الإنتاج الحديثة في مجالات البناء والسباكة وقيادة السيارات والصيد والزراعة والتعليب والتخزين والنقل، إلخ في مستوى آخر. 



عصر آخر لم نطأه بعد. وكل دقيقة انتظار تبعدنا عنه ساعة، لأنه لا يتوقف في انتظارنا. ونحن نحتاج إلى مهاراته مسألة حياة أو موت. بأي طريقة. وبمن يستطيع حاليا. 


لكن التوسع في الجامعات والمدارس الخاصة يعطي الموسرين ميزة تفضيلية في التعليم!! 


يا سيدتي إن للموسرين ميزة تفضيلية في أشياء كثيرة. التوسع في التعليم الخاص يبدو في البداية أنه "يخلق" ميزة تفضيلية للموسرين. لكن نظرة أكثر تأنيا ستجدين أنه في الحقيقة يحول ميزة تفضيلية "موجودة أساسا" إلى ميزة للمجتمع. كيف؟ لننظر إلى الدورة الاقتصادية من البداية:
??
1- المشروع في حد ذاته، بغض النظر عن طبيعته، يعني تشغيل أيد عاملة في البناء والبنية التحتية. (تلك فرص عمل لحرفيين ذوي دخول متوسطة أو فقيرة)?.
2- التوسع في تلك المشاريع سيتطلب طرح مزيد من الوظائف في مستوى ذوي الخبرة، من أساتذة جامعات أو معلمين، بالإضافة إلى الوظائف الإدارية. بالإضافة إلى فرصة العمل سيتوافر لكثير منهم مستوى من التدريب على وسائل تعليمية حديثة لا تتوافر عادة في الوضع الحالي. تلك فرص عمل لطبقة متوسطة. لكن كل فرد من هؤلاء يشغل حوله مكوجية وبقالين وأصحاب أعمال يدوية. الثروة - مهما كانت قيمتها - ينزلق فائض منها على هرم المجتمع، من طبقة إلى طبقة.?
3- ? التجهيزات اللوجستية من كمبيوترات ومعامل وقاعات، ستخلق سوقا اقتصادية أخرى. 
4- خروج أعداد أكبر من سوق التعليم المجاني سيخفف العبء عنه. في جامعة القاهرة كثير من القادرين على الالتحاق بجامعات خاصة لكنهم لا يفعلون لأنها غير متوافرة في مجال معين، ولأن القوانين المنظمة لها حتى الآن لم تعط شعورا بالطمأنينة. 
5- الطلاب يخلقون مجتمعات اقتصادية في مناطق تواجدهم. 



الاعتقاد بأنه يمكن حرمان الموسرين من ميزة الحصول على تعليم أفضل وهم، وهو اعتقاد قاصر دافعه شعوري لا عقلاني. الموسرون إن لم يجدوا فرصة تعليم هنا تلبي طموحاتهم سينتقلون إلى الخارج، يتعلمون هناك، ويحصلون على الميزة التفضيلية، لكن دون أن نحصل نحن عليها من وجودهم هنا وتشغيل دورة الاقتصاد بالشكل الذي بسطته أعلاه.


إن هدف الاقتصاد ليس الانتصار الطبقي، ولا حتى تحقيق العدل من وجهة نظر طبقة معينة. هدف الاقتصاد الناجح تحويل ميزات طبقة إلى نفع لكل طبقة. تحريك الثروة في طبخة المجتمع. الأفراد، لا الطبقات، يتحركون داخل المجتمع كما تتحرك عناصر خليط يتقلب. حركة متعددة الأبعاد وليست على خط أفقي بين اليمين واليسار، أو رأسي بين الأسفل والأعلى. هذه رؤية تنتمي إلى عصر الأرض المسطحة ثنائية الأبعاد. 


الثروة في عصر الاقتصاد الحر ومعدلات التضخم لا تملك رفاهية البقاء آمنة بلا استثمار، وعمل جاد. على الأقل إن الأغلبية الكاسحة من الأثرياء لا يملكون هذه الرفاهية. 


لكن التركيز على هدف "تقليل الفارق بين الطبقات" يعمينا عن رؤية حركة المجتمع في البلاد ذات الاقتصادات الرأسمالية الحرة. ويجعلنا نتبع سياسة صورتها الدرامية كالتالي: هناك أناس على الدرجة الخامسة من السلم، لا بد أن نوقفهم هناك، حتى يستطيع من على الدرجة الأولى أو الثانية اللحاق بهم، أو على الأقل تقليل الفارق معهم. 



تلك وصفة الفشل المنطلقة من تفكيرنا في الثروة على أنها صيد، أو نعمة من الله، ينبغي تقسيمها على الحضور بالتساوي، لكي يكون هذا نقطة البدء النقية العادلة. بهذا المنطق تعيش المجتمعات المتخلفة عمرها كله تدور حول نقطة البدء الزئبقية تلك. الكارثة الأكبر - ياللسخرية - أن تنجح في ذلك، فتنقض غزلها من بعد قوة أنكاثا. من عصر الجمع والالتقاط إلى يومنا هذا، الثروة قنص، ومهارات. هذه هي القاعدة. 


ينبغي أن نصرخ في البشر على الدرجة الخامسة، برافو عليكو، أحسن شباب، إلى الأعلى. تماما كما فعلت البشرية مع منافسات البطولات الأولمبية. مزيد من الرغبة في السبق، ثم مزيد من الرغبة في السبق، ثم مزيد من الرغبة في السبق. كلما اتسعت الفجوة لحقها أبطال آخرون، ثم التالون لهم فالتالون. حين يكون لدينا أناس على مستوى مانشستر يونايتد، لا شك سيكون لدينا تحتهم ألف ناد جيد. لن يحدث هذا إلا بفتح المجال أمام من في قدرتهم أن يسبقوا وأن يستمروا في السبق، ونشجع الآخرين على اللحاق بهم. 


بدايات المجتمعات الاستثمارية، في كل تجاربها، تخلق فجوة، لكنها على المدى المتوسط تملأ الفجوات. بالمعيار الاقتصادي، وصول من على الطابق الخامس إلى الطابق السابع نجاح، ووصول من في الطابق الأول إلى الثاني نجاح. حتى لو كانت الفجوة اتسعت. لأن الجميع حينئذ يكونون في حال أفضل مما بدأوا عليه.