قبل الكسر العند والكبرياء.. وقديما قالوا: "نحن كالغصن الرطب للريح العاتية حتى تمر فتعود تقف مرة أخرى، بدلا من أن تعاند في كبرياء وتصر على الوقوف كالعود الناشف فتكسرك الرياح. 

والبعض لا يحبون هذا المثل ويعدونه من مظاهر الجبن أو السلبية، ولكنّه في الحقيقة ينتمي لمفاهيم ربما لا ينتبه لها البعض في الوقت الراهن، لأنها تدعو إلى التعقل والتواضع وحسابات القوة قبل العنجهية والكبر والعند.

عن إدارة الجامعة الألمانية لأزمة حادث الطالبة يارا أتحدث.. وهو نموذج يشبهه كثير من الأحداث.

أولا: اسمع ما يقوله الطرف الآخر فقد يكون جزء منه صوابا.. فأنت حين تسمع تعطي فرصة التفاهم وتمتص غضب الطرف الآخر وتتيح له فرصة التعبير عن نفسه فتهدّئ من الأمور.. ماذا إن لم تقم بهذه الخطوة البسيطة التي لن تكلفك شيئا؟ ستفرض على نفسك موقفا مسبقا برفض الآخر تماما، ولن تستطيع التراجع في موقفك هذا أبدا، وستضطر لإكمال المشوار وأنت متشنج ومتصلف وواقف بعند في مواجهة أي رياح.

هل معنى هذا أن تتنازل وتخضع للطرف الآخر؟ أبدا.. لأنه قد يكون على خطأ هو الآخر.. لا أقول إن كل مطالب طلاب الألمانية ينبغي على الإدارة الانصياع لها..بالعكس.. وهنا تأتي..

ثانيا: عندما يهدأ الطرفان تبدأ مرحلة التفاوض وبتعبير آخر الـ (compromise).. في التفاوض نتفق ونختلف ونصل إلى حلول وسط ترضي جميع الأطراف وتنقص قليلا من مطالب كل الأطراف وتضمن عدم انكسار طرف في مقابل الآخر.

ماذا فعل الرئيس لحل مشكلة مياه النيل؟ استمع لوجهة النظر الأخرى، وقال إن من حق إثيوبيا أن تسعى لتنمية البلاد وإقامة السد.. فماذا كانت النتيجة؟ بدأت المفاوضات.. لم ولن تتحقق كل مطالبنا ولكن سنضمن عدم الضرر بمصالحنا المائية.. وقد أتى رئيس وزراء إثيوبيا إلى المؤتمر الاقتصادي لدعم مصر في شرم الشيخ وتحدث وتخلى عن تشدد بلاده فيما قبل، وقال سنسبح سويا أي سنضمن مصالح البلدين.. وضحك السيسي طويلا.. الـ (compromise) إذن هي استراتيجية دبلوماسية يلجأ لها الساسة للحصول على أفضل مكاسب ممكنة ولكنها تتحطم على صخرة العناد والعنجهية.

ثالثا: احسب حسابات القوة.. إذا كنت أنت الطرف الأقوى وكان الطرف الآخر عنيدا ولا يقبل التنازل قليلا، قم بالضغط عليه واستخدم سلطانك دون أن تكسره.. فلو قضيت على مصالحه عندك سوف لا يبقى لديه ما يخسره وعندئذ سيقاتلك بضراوة.. أما إذا كنت أنت الطرف الأقل سلطة فانحني أكثر قليلا، واترك رياح السلطة تعبر فوقك ولا تعاند ولا تتصلف.. عندئذ ستهدأ العاصفة وستقوم أنت سليما وتقف صحيحا دون خسائر.

متى تمتنع عن التفاوض؟

في حالات ثلاث لا تفاوض وقاوم واثبت.. في حالة القيم والعقيدة لا تفاوض ولو على حياتك.. قدم نفسك مثل كل الشهداء الأقوياء فلا تفاوض على الإيمان.. في حقوق البلاد والعباد لا تفاوض ولا على مال ولا أرض.. فمن له الحق له القانون.. ولا تنازل في الحقوق.. لا تفاوض الإرهابيين ولا تتنازل لهم أبدا ولا تخضع لمطالبهم ولا ابتزازهم.. ومهما كانت خسائرك الحالية، أنت سوف تكسب على المدى البعيد بالقضاء عليهم لا بمصالحتهم.

إذا كان طلاب الألمانية ليسوا من هؤلاء ولا أولئك – وبالتأكيد هم ليسوا منهم - فلا ضير من استماع الإدارة لهم، ولآبائهم.. والنفع- كل النفع- من التفاهم من قبل كل من الطرفين دون تصعيد.. وليفهم الطلاب أيضا أن عليهم السعي نحو تهدئة الأزمة من جانبهم إن سعت الإدارة لذلك فالمصلحة واحدة في النهاية.

كل عاقل يقبل الحلول الوسط فلا عيب فيها.. التفاوض فن.. والدبلوماسية علم.. وللاتفاق والوفاق أصول تدرّس، وتضمن مصالح الجميع.. أما العند فيولّد عندا.. والعند يورث كفرا.. والكبرياء نهايته الكسر وتشامخ النفس يؤدي إلى السقوط والانهيار.