بروفايل| فؤاد زكريا.. الفيلسوف الذي حارب الخرافة بالفكر
"مصر مضطرة للاختيار بين فكر بلا فعل، أو فعل بلا فكر، وأحسب أنه لن يكون لنا خلاص إلا عندما يصل الذين يفكرون إلى المستوى الذى يتيح لهم أن ينقلوا فكرهم إلى حيز الفعل المؤثر والفعال، أو يصل الذين يفعلون إلى المستوى الذي يدركون فيه قيمة الفكر المتفتح والعقل المستنير".
بتلك الكلمات حاول الدكتور فؤاد زكريا الذي حلت ذكرى وفاته، أمس الأربعاء، أن يلخص معضلة التأخر الحضاري في مصر، فالفيلسوف الذي تعود ألا يضع أحدا فوق النقد، لم يستثن ذاته من النقد لعدم قدرته على إحداث التغيير، وعدم التفات السلطة إلى أمثاله من المفكرين، ومازلت إلي اليوم أطروحاته الفكرية تشغل بال العديد من المهمومين بحال العقل العربي.
الفيلسوف الأكاديمي
دخل فؤاد زكريا، الذي ولد ببورسعيد عام 1927، الحقل الأكاديمي برسالة دكتوراة عن "الحقيقة" في عام 1956، مشيرا إلى أن امتلاك الحقيقة المطلقة يقود صاحبها للجمود، وذلك قبل أن يرأس قسم الفلسفة في جامعتي عين شمس والكويت.
واستطاع الفيلسوف المصري، على مدار حياته، أن يقدم للمكتبة العربية تراثا ثريا، سواء من جهة ترجماته لكبار الفلاسفة، مثل "برتراند راسل"، و "هربرت ماركوزه"، أو من جهة مؤلفاته، مثل كتابه الأشهر "التفكير العلمي"، وكتب مثل "آفاق الفلسفة"، و "الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة"، و"الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، وغيرها من المؤلفات.
التفكير العلمي
لم يكن "التفكير العلمي" يمثل لفؤاد زكريا مجرد عنوان لكتاب ألفه، بل كان عنوانا لحياته التي ظل خلالها يدافع عن هذا المفهوم، فحاول إزالة ذلك المفهوم الشائع الذي يعتقد أن التفكير العلمي مرتبط فقط بالكيميائيين أو الفيزيائيين أو العلماء والأساتذة، فيصفه بأنه "ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقتنا مع الناس، ومع العالم المحيط بنا".
معاركة الفكرية
يقول زكريا: "الأمل معقود على أن تسود الحكمة ويغلب التعقل، فندرك أن طريق العلم لا رجوع فيه إلى الوراء، وأن الدفاع عن الخرافة تمسحا بالدين لن يضر قضية العلم كثيرا، ولكنه يسيء إلى قضية الدين إساءة بالغة"، هو كذلك دائما، لم يدعي يوما أنه معارض سياسي أو مناضل ضد السلطة، لأنه لم يكن كذلك، حتى وإن هاجم السلطة والقائمين على الحكم.
بل كان يعتقد أن أمراض وعيوب السلطة جزء لا يتجزأ من الأمراض المترسخة في العقل العربي، فأختار أن يسبح ضد التيار المعادي للعقل النقدي والتفكير العلمي، حتى وإن كلفه ذلك الإصابة بسهام التكفير والعمالة.
شارك "زكريا" في العديد من المناظرات أمام مناصري الإسلام السياسي، مثل محمد عمارة، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، ومحمد سليم العوا، كما شارك الراحل فرج فودة في مناظرة محمد عمارة ومحمد سليم العوا في نقابة المهندسين عام 1992.
مناظرة بين فؤاد زكريا ليوسف القرضاوي ومحمد الغزالي التي أقيمت في دار الحكمة عام 1985
الإسلام السياسي
برز اسم فؤاد زكريا حينما أختار أن يصطدم بشيخ الأزهر آنذاك، الدكتور عبدالحليم محمود، حينما قال أن الجيش المصري انتصر في حرب 1973، لأنه رفع شعار "الله أكبر"، كما انتقد ما قيل عن مشاركة الملائكة في الحرب، فكتب مقاله الأشهر في الأهرام بعنوان "معركتنا والتفكير العقلي"، منبها إلى خطورة مثل تلك المفاهيم، مشيرا إلى أن الجيوش لا تنتصر بالشعارات الدينية، بل بالتخطيط والتدريب العسكري.
الشيخ محمد متولي الشعراوي أيضا نال نصيبه من نقد الفيلسوف، الذي قال عنه: "يقول إن المرأة يجب أن تكون مستورة، حتى لا يشك الرجل في بنوة أبنائه منها، هكذا يقرر الشيخ، ببساطة شديدة، أن المستورة أو المحجبة هي وحدها التي تنجب لزوجها أبناء يكون واثقا من أنهم من نسله".
واتهم زكريا الشعراوي بتسفيه العلم في تفسيره المفصل لآيات الفلك، قائلا: "الأمر الملفت للنظر في هذا الحديث هو حرصه الدائم على الإقلال من شأن العقل والعلم الإنساني، واستمتاعه بتأكيد ضعف النظريات العلمية البشرية وتفاهتها، وأن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية كلها لا تساوي شيئا، هنا لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لمصلحة من يقال هذا الكلام في بلاد تكافح من أجل اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا".
اليسار
رغم ميله لليسار، إلى حد ما، إلا أن ذلك لم يمنع فؤاد زكريا من تأليف كتاب "عبدالناصر واليسار المصري"، ينتقد فيه تجربة اليسار المصري والناصرية، بالإضافة لصدامه بمحمد حسنين هيكل في كتابه "كم عمر الغضب؟.. هيكل وأزمة العقل العربي"، الذي غرد فيه خارج السرب ليهاجم كتاب "خريف الغضب"، ويؤكد أن المساوئ التي ذكرها هيكل في نظام السادات هي امتداد لمساوئ الناصرية التي شارك فيها الكاتب الكبير ذاته.
وفاته
بعد تقاعده عن التدريس عاش الدكتور فؤاد زكريا سنواته الأخيرة منسيا، لدرجة أن جريدة الأهرام منعت نشر مقال أرسله لها، وكثيرا ما اشتكى محبيه من تجاهل الإعلام والمؤسسات التعليمية له، لدرجة أن خبر وفاته في 11 مارس 2010 شكل صدمة كبيرة للبعض، ليس لعدم توقعهم الوفاة، بل لعدم معرفتهم بأنه كان حيا قبلها من الأساس.