بين زحام القاهرة ووحدة الدوحة.. قصتي (5)
أهلا بك مرة أخرى يا صديقي.. سعيد جدا أنك لم تملّ من حكايتي بعد.. ولكني لازلتُ أراها حكاية عادية مكررة!!. سأكمل، أختم اليوم ما بدأته معك في أربع حكايات سابقة.. يُمكنك أن تصنع لنفسك ما تُريد أن تشربه.. لم تعد غريبًا الآن. لنبدأ..
مصر وقت الإخوان.. القاهرة – يناير 2013
كم هو رائع السفر!.. استمتعت هذه المرة بالسفر في الطائرة، رغم أنها كانت ثاني مرة لي ولكن شتّان الفارق ما بين السفر بفرحة والسفر بحزن.. وصلت لبلدي لأهلي ولأصدقائي ولضحكة حية من قلبي قد تركتها هناك معهم.. كانت إجازة رائعة.. استمتعت بكل ثانية بها وكنت لا أريد النوم.
كنت في فضول لأرى مصر في عهد الإخوان.. وفوجئت بالفروق الفظيعة.. في كافيهات طريق الإسكندرية والمهندسين، وجدت الناس تحرروا أكثر مما تركتهم.. وفي الشوارع وجدتهم تزمتوا أكثر بكثير مما تركتهم.. كان كوميديًا جدًا رعبي أثناء القيادة بعد ستة أشهر بعيدا عن شوارع مصر.. نحن لا نقود.. نحن نمارس فقرة أكروباتية ما بصورة يومية.
على جانب آخر لم تخلْ جلسة من شجارٍ ما بين أنصار مرسي ومعارضيه! حتى مللت من الكلام في السياسة أو حتى سماعهم يتكلمون... ولكن عموما تبدد خوفي من الإخوان.. "الشعب ده مايتلعبش فيه يا هندسة" قالها لي حسين صبي القهوة ضاحكًا.. واتخذتها حكمة.. رجعت للدوحة مرة أخرى ومعي أغلى هدية ..رسالة ترحيب بي في مصر من حب عمري المتوقف منذ ثلاث سنوات.. وألبوم صور مع من أحب من أهلي وأصدقائي.
التعوّد.. الدوحة – فبراير – مارس 2013
لقد تعوّدت.. لا يوجد جديد.. لقد زرت كل المولات.. العمل لم يكن به جديد ولا مجال لإثبات نفسي.. جرّبت كل المطاعم.. وأصبحت أنصح الوافدبن الجدد بالجيد.. وعدت لحبي القديم كلمت والدها واستأذنته في أن أداوم على أن أكلمها حتى أعود وأرتبط رسميا.. كان صعيديا متزمتا ولكنّه بمعجزةٍ ما وافق.. وأصبحت حياتي مابين شاشتي جهازي كمبيوتر العمل والمنزل.. تصميمات ورسومات للمشاريع صباحًا ورسم خطوط المستقبل معها والاطمئنان على أهلي مساءً.. ومتابعة ما يحدث في مصر بترقب.. كنت واثقًا أن هناك شيئا ما سيحدث.
الإعلام في قطر.. الدوحة أبريل 2013
كل مرّة أمرُ أمام مباني قناة الجزيرة أُفكر كيف لمجرد قناة أن يكون لها كل هذا التأثير ؟! هذه القناة التي ولدت في 1996 فقط بتمويل حكومي وبدون أي إعلانات أن تصعد للقمة بعد أحداث سبتمبر 2001 حتى تصبح الأهم في البلاد العربية؟.. في ثورة يناير لم أكن أكره الجزيرة.. كنت أراها صادقة جدًا.. ماذا حدث؟ لا أعلم.. كما لا أعلم حتى الآن سبب العداء القوي مع قطر نفسها وسبب دعمها للإخوان، رغم أن كل شبر من قطر يقول لك هذا الشعب ليس له أي علاقة بأي شيء تابع للإخوان.
الآن أستمع لبعض مذيعينا وهم يحكون عن ثورة قريبة في قطر وأضحك.. عن القطريين الإخوان وأضحك.. حسنا سأكّذب عينيّ وحياتي هنا وأصدقكم.. الموضوع كله لعبة مصالح فقط مصالح.. ومن سيجعلنا أسيادا عليه سندعمه لنظل أسياده.
الجدير بالذكر.. أن أغلب القطريين لا يشاهدون الجزيرة الإخبارية ولا يقرؤون جرائدهم التي تُعد على أصابع اليد.. نفس الجرائد المليئة بالكُتاب المصريين الليبراليين مثل فاطمة ناعوت وآخرين.. المُلفت أن إعلام قطر لا يوجد به ما يسمى بالحوادث.. وكأنّها مدينة أفلاطونية... هناك تضييق شديد على أي حادثة تحدث وكأنّه عار عليهم.
العمالة في قطر.. الدوحة – مايو 2013
الحرارة والرطوبة عادت.. كنت في زيارة للمصنع ووجدت العمال يعملون في ظروف أقل ما يُقال عنها إنها غير آدمية.. ليست شركتنا فقط.. كل الشركات.. كل ما حكيته لك أو سمعته عن الدوحة الجميلة.. انساه في المدينة الصناعية حيث العمالة الرخيصة التي تسكن في عنابر غير نظيفة أو مكيفة.. والتكييف في الخليج مثل الماء والطعام البعد عنه قاتل.. كم عامل مات بسبب العمل في هذه الظروف؟ أنا متأكد أن العدد كبير جدا.. بعدما رجعت من هناك سمعت عن شجب العديد من المنظمات الدولية لظروف عمل العمالة في مشاريع كأس العالم .. أقول لهم.. ما رأيتموه لا يُذكر مقارنة بما يحدث في "المينا الصناعية".
الثورة.. الدوحة – العاشر من يونيو 2013
هل حقا مرّ عليّ عاما هنا؟ حقيقة الغربة تسرق العمر.
نزلت من عملي وتوجهت لمحل الشاورمة اللبناني بطريق النصر.. حتى حدث موقف لن أنساه طوال حياتي.. شجار عادي بين مصري ولبناني يعملون هناك.. سب المصري اللبناني بالغبي، فرد عليه وقال له بماذا أسبك وأنت رئيسك وكبيرك هذا الرجل.. وأشار للتليفزيون وكان فيه محمد مرسي.. وانطلق كل اللبنايين في وصلة سخربة.. كل هذا وأنا واقف لا أعرف ماذا أفعل.. كما الأخرس أخذت طلبي و كلي غضب داخلي ورحلت وقلت للبناني الآخر.. على فكرة.. غمة و تزول.
الحادي والعشرون من يونيو..2013
كان ميعاد إجازتي السنوية قد حان.. وكلي شوق للعودة لأرتبط رسميا بمن أُحب.. تكلّمت مع صاحب الشركة الفلسطيني ووافق على الإجازة.. طلبت مستحقاتي المتأخره المقدرة براتب شهرين.. فرفض.. قلت له أنا أريد حقي لأجل أن أشتري شبكة ومصاريف أخرى.. قال ألف مبروك.. كنت أتمنى ولكن لا يوجد.. قلت له شكرا.. لا لن أتسول حقي.. مثال آخر ممل لتعاملات المصريين مع أصحاب العمل الفلسطينين في الخليج.. رجعت بيتي وقمت بملء استمارة تمرد.. أضعف الإيمان.
الأول من يوليو.. 2013
بيان السيسي قد ظهر.. كلّمت سعيد سائق التاكسي الأسود.. توجهت لنفس محل الشاورمة.. وجدت المصري المشتوم سابقا سلّمت عليه وجدته سعيدا مثلي.. احتضنته وقلت لهم.. أنا مش جاي أجيب أكل أنا جاي أفكركم إني قلتلكم دي غمة وتزول.. بروح رائعة كانوا فرحين معنا.. رجعت حزمت حقائبي.
في الثالث من يونيو كنت في شوارع مصر.. أحتفل مع أهلي.. و يومها كان كل من في الشارع أهلي.. وقررت ألا أعود قطر وأترك هذا البلد.
خاتمة
أنا في مصر الآن سعيد بعملي وبيتي وأهلي وأصدقائي.. كل ما ادخرته طبعا قد نفد.
هل استفدت من السفر؟ إنسانيا وماديا نعم.. هل سأكررها؟ لا أعلم.. ولكني أعلم شيئا واحدا.. أنا أحب بلدي جدا.. وأحب كوني هنا.
هل أحب قطر؟ طبعا.. ولماذا لا أحبها؟ لقطر خير عليّ ليس إحسانا ولكن مقابل عمل وتعب.. لقطر فضل إنساني عليّ لن أنساه.. نعم أحب قطر والقطريين ولا أحب حكامهم.. لا تسبوا شعبا أبدا لا تسبوا شعبا ولا بلدا.. الحكام زائلون والبلاد والشعوب باقية.
الغربة ليست سيئة يا صديقي.. الغربة فلتر للمشاعر والعلاقات.. علاقتنا بالله.. بوطننا.. بأهلنا.. بأصدقائنا.. فلتر لمدى قبولنا للآخر.. للتعامل مع من هم ليسوا من وطنك أو دينك أو ثقافتك.. فلتر لإنسانيتك.. لذكائك.. وتحدٍ لقوتك.
لن أنسى أبدا من اهتموا بي دوما رغم البعد.. إيفيت حبيبتي وزوجتي الآن.. أصدقاء عمري إبرام ونادر وسامح وبولا وبافلي وأسماء وسارة وميرنا وسوتي وميرا وجينا وأصدقاء القهوة في مصر أحمد وشريف ووائل وعادل.
وفي الدوحة رامي شريك سكني ومينا ومرقص وطلعت وأكمل الذي حين علم أنني في ضائقة ما لم يتوان في أن يأتي إليّ بألف ريال حتى المنزل.. لن أنسى هذا مع أصدقاء الجنسيات الآخرى الذين حكيت لك عنهم سابقا...والآن.. قد اكتسبت صديقا جديدا هو أنت.. ولا أنوي أن أخسرك أبدا
"انتهت"
مينا فريد
القاهرة – 2015