التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:31 ص , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة (7)

وماذا عن تهنئة المسيحيين؟ 
إذا كانت التهنئة بخصوص زوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك، فذاك أمر مختلف عليه، إذ قد أباحها إمام أهل السنة مرة ومنعها أخرى، بحسب ما يفيدنا أبو بكر الخلال في أحكام أهل الملل وابن القيم في أحكام أهل الذمة، لكن  الأخير يؤكد أن هناك أمرين لا خلاف فيهما. 


الأول: هو التحذير من الوقوع فيما يقع فيه الجُهّال أثناء تلك التهنئة، كأن تقول للمسيحيّ مثلاً: أكرمك الله، أو أعزك الله، إذ كيف تدعو له بالكرم والعزة وقد أمرك الله أن تذله وتصغره؟!


أما الأمر الثاني: والذي لا خلاف فيه، فهو تهنئة المسيحيين بأعيادهم أو عبادتهم، كصومهم مثلاً، فذاك أمر مُحرّم بالإجماع. فأنْ يقول مسلم لمسيحيّ عيد مبارك، فهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب وذلك «أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه». 


ويشّدد صاحب الأحكام أن هذا الحكم كان محل إجماع أهل العلم، واتفق عليه أصحاب المذاهب الأربعة، ويفسره بما يعني أنهم ممنوعون أصلاً من الاحتفال بهذه الأعياد علنًا كما جاء في الشروط العمرية، فبديهي أن هذا التحريم يترتب عليه تحريم تهنئة المسلم لهم بتلك الأعياد «لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له». وهذا هو الحكم الذي نسمعه من مشايخنا كل عام مع أعياد الكريسماس، لكننا دومًا نوجه نقدنا في الاتجاه الخطأ، فالمشايخ لا يستحدثون أحكامًا، بل ينقلونها عمن استخلصها قبلهم بقرون، اعتمادًا على النصوص. 


وقد استخلصوا هذا الحكم بالذات من آية: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا"، إذ فسر ابن كثير معناها نقلاً عن محمد ابن سيرين وغيره أن المقصود: أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ. وفي طبقاته، يتحدث ابن سعد عن محمد بن سيرين فيقول: «كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثير العلم ورعًا». وكانت أمه مَوْلاةَ لأبي بكر الصديق، وأبوه عبدا لأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين. وقبل أن يتوفى ابن كثير - رحمه الله - بأكثر من ستمائة عام، كان الإمام أحمد قد اعتمد التفسير ذاته. 


وبالإضافة إلى المرجعية القرآنية للحكم، فقد استندوا على عدد من الأحاديث، منها حديث صحيح ينقله ابن القيم جاء فيه: قال رسول الله ?: «لا تدخلوا على هؤلاء الملعونين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم». والحديث رواه البخاري بلفظ هؤلاء القوم، ومسلم بلفظ الذين ظلموا أنفسهم. واستشهدوا بحديث أخرجه البيهقي في السنن عن عمر بن الخطاب، يقول فيه: «لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم». ونقل البيهقي عن البخاري، من التاريخ الكبير، عن عمر أيضًا: «اجتنبوا أعداء الله في عيدهم».


ولما كانت تهنئة المسيحي في أعياده محرمة بإجماع الفقهاء، فطبيعي أن ينسحب التحريم على الإهداء في تلك الأعياد أو المناسبات الدينية عمومًا، فقد رأى ابن القاسم - تلميذ الإمام مالك - أن إهداء المسلم للمسيحي يعد: «عونا له على كفره». وقال تلاميذ أبي حنيفة: «من أهدى لهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم العيد فقد كفر».


وقد حرّموا شراء أي سلعة من المسيحيين في أيام عيدهم، لا لحمًا ولا ثوبًا ولا جلدًا، بل إن إعارتهم أي شيء من شأنه المساعدة في إتمام العيد محرمة أيضًا، ذلك لأنها تعد: «من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم». وينبغي على الأمير المسلم، لا أن يمنع المسلمين من مشاركتهم أو عونهم فحسب، بل يمنعهم هم من الاحتفال بتلك الأعياد.


خاتمة:


(1)


بما سطرناه أعلاه نكون قد انتهينا من بحثنا الذي نشرناه في طيات سبعة مقالات كان هذا ثامنهم. وكنا قد بدأنا بذكر الشروط العمرية،التي تعد الوثيقة الفقهية الأهم في هذا المضمار، لا لكونها قد حوت في طياتها العديد والعديد من الأحكام فحسب، بل لأنها صادرة عن ثاني المبشرين بالجنة. 


وفي المقال الثاني، توقفنا عند محطة التفريق في تنفيذ بنود الوثيقة بين البلدان التي استسلمت لجيوش المسلمين وتلك التي فُتحت عنوة. ثم جاء المقال الثالث ليجيب عن سؤال مفاده: هل كانت وثيقة عمر بن الخطاب هي الأساس الفقهي الوحيد للأحكام أم كان لها مرجعية معتبرة من القرآن والسنة وسيرة النبي محمد ?؟ وأثبتنا أنه - رضي الله عنه وأرضاه - ما كان في أحكامه سوى متبع. وفيه أوردنا العديد من المصادر والمراجع للراغبين في الاستزادة والمزيد من الاستقصاء. 


وبالوقائع التاريخية، استعرضنا في المقال الرابع  علاقة أهل الذمة من المسيحيين واليهود بسلطات الخلافة الإسلامية، وهل كان لهم حق تولي الوظائف العامة في بلدانهم أم لا؟ وكان الجواب من واقع ما قام به الفاروق وحفيده عمر بن العزيز المقتفيين  لسيرة النبي الأكرم، ومن بعدهم المهدي والرشيد أن الإجابة قطعًا لا. 


وكان من الممكن، ولعِظم مكانة هؤلاء الخلفاء، أن نكتفي بهذا العرض التاريخي لما جرى، بيد أننا آثرنا أن نؤكد على أن الأمر لم يكن عارضًا، بل كان قاعدة وما خلاه استثناء وتراخي في تطبيق الشريعة، فجاء المقال الخامس  ليغطي مساحة زمنية من المتوكل إلى القائم بأمر الله، وفيه أوردنا نصوص المراسيم الصادرة من دواوينهم إلى رعاياهم من المسيحيين. ونود هنا أن ننوه أننا نخص المسحيين بالذكر لأننا – على الأقل في مصر – لم يعد لنا احتكاك يذكر بغيرهم من أهل الذمة.


وكان لزامًا علينا أن نُسلط الضوء على ما جرى في مصر تحديدًا؛ لذا خصصنا المقال السادس لهذا الموضوع، فتناولنا فيه ما جرى لدور عبادة الأقباط وموقف الخلفاء والفقهاء من قضية توليهم الوظائف وآلية دفعهم للجزية.


ثم انتقلنا في المقال السابع إلى ما أسميناه العلاقة الأفقية بين المسلم والمسيحي، ونقلنا فيه للقارئ قول الفقهاء في العديد من القضايا الإنسانية كحقوق الجيرة وإلقاء السلام وعيادة المرضى وخلافه. وجاء مقالنا هذا متممًا له، لا رغبة في الحشو، بل لأن قضية التهنئة بالأعياد موضع جدل إعلامي في ديسمبر من كل عام، يحسب كثير من الناس أن قول المشايخ فيها مجرد شطط أو فتاوى شاذة.  


(2)


لعل القارئ الآن قد فطن إلى زيف ادعاءات من يطلقون على أنفسهم "باحثين" وهم في الحقيقة "دعاة" مُدّعين، أولئك الراغبون على الدوام في إلصاق كل قيمة صُنعت في الغرب بتاريخنا الإسلامي في الشرق، والمواطنة وحقوقها على رأس تلك القيم.


إن محاولاتهم البهلوانية في هذه القضية بالذات لا يُمكن ردها إلا لسببين اثنين، إما أن يكونوا جهلاء بحقيقة الأحكام الفقهية والوقائع التاريخية، وكلنا بدرجات متفاوتة جهلاء، فإنْ كانوا كذلك، فها نحن قد وضعنا أمامهم الحقائق لعلهم يفقهون.


أو أنهم يتعمدون التزييف بلصق حديث من هنا على واقعة من هناك، معتمدين على تباين العلاقة بين النبي محمد وأهل الكتاب، والتي من شأنها أن تتمخض عن أقول ووقائع تخدم ادعاءهم، وهي وقائع معظمها صحيح بالمناسبة، ذلك لأن علاقته ? بأهل الكتاب بدأت قوليًا بالثناء في مكة، وانتهت عمليًا بالنفي والقتل ووضع الجزية في المدينة، وكان آخر ما حدث به أن يتم نفيهم من نطاق شبه الجزيرة نهائيًا وكما يقولون: العبرة دائماً بخواتم الأمور، وهو الأمر الذي فطن إليه السلف، ونفذه الخلفاء، واستنبط الفقهاء منه الأحكام التي عاشت في ظلها الأمة لثلاثة عشر قرنا على الأقل.


إن هذه القضية بالذات لا تحتمل المراوغة ولا التلفيق أو خلط الأمور، فإمّا أن تكون الشريعة هي الأساس الذي نتعامل به، ووقتئذ سينقسم المصريون إلى مسلم وكافر، أو مسلم وذمي، ويكون التعامل بمقتضى ما عرضناه من أحكام، أو أن تكون العلمانية هي المعيار، وقتها ستتحقق مبادئ المواطنة بشكل تلقائي. ترى هل سيملك هؤلاء المنسحقون حضاريًا شجاعة الاعتراف بأفضلية قيمة غربية؟! 


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك