التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:12 ص , بتوقيت القاهرة

طوطم إسرائيل وحظيرة العرب

«ويدعو الملوك والرؤساء والأمراء العرب حكومة جمهورية مصر العربية إلى العودة نهائيًا عن هذه الاتفاقيات.. ويأملون منها العودة إلى حظيرة العمل العربي المشترك».


«لاتخاذ التدابير العملية اللازمة لنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى عاصمة عربية أخرى.. ريثما تتوفر الظروف السياسية المناسبة لعودة مصر إلى حظيرة الأمة العربية، وتعلق عضوية مصر في الجامعة العربية مؤقتاً ولنفس الأسباب»


«..مما يخلق ظروفًا جديدة.. تتنافى مع مبادئ القومية العربية وتقاليدها وأسس المقاطعة العربية للعدو الصهيوني» .. فإن المؤتمر يقرر ما يلى:
«...... تطبيق قوانين المقاطعة على الشركات والمؤسسات والأفراد في جمهورية مصر العربية الذين يتعاملون بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع العدو الصهيوني...»


«كما يحث المؤتمر كافة البلدان العربية على الاستمرار بالتعامل مع المؤسسات الوطنية المصرية التي يتأكد امتناعها من التعامل مع العدو الصهيوني وتشجيعها على العمل والنشاط في البلاد العربية في إطار الميادين التي تعنى بها، كما يرى المؤتمر أن لا تشمل الإجراءات التي تتخذ في هذا الصدد النتاج الثقافي والفني لشعب مصر النابع من أصالة هذا الشعب وصلته العريقة بالثقافة العربية، وأن يقتصر الموقف على الأعمال الفكرية والثقافية والفنية التي تروج للتعامل مع العدو الصهيوني أو التي لها صلة بمؤسساته...».


تلك فقرات من قرارات القمة العربية ببغداد في نوفمبر 1978، التي تم عقدها بعد اتفاق "كامب ديفيد" بشهرين، ونلاحظ هنا سيادة لغة الشعارات، والحديث عن (الحظيرة العربية) و(مبادئ القومية العربية وتقاليدها).


مقررات قمة بغداد لم تصمد فاستمرت المقاطعة عشر سنوات ثم انتهت، ومع ذلك فإنَّ انهيار مقررات القمة سياسيًا  واقتصاديًا لم يقترن بانهيار تأثيرها الفكري والثقافي، فأولئك المثقفون المشتغلون في النقابات التي دعت القمة لعدم مقاطعتهم إذا ما اتخذوا موقفًا معلنًا معاديًا للتطبيع، اعتادوا اتخاذ هذا الموقف الذي يصرخون فيه برفض التطبيع، خصوصًا أن هذا كان دائمًا يفتح الباب للعمل في ليبيا والعراق والجزائر، وأحيانا الخليج، وأحيانا في مقر الجامعة الجديد في تونس، كما أنه كان يضيف قيمة لصاحبه ( باعتبار أنه صاحب موقف)، وأن الموقف هو (أن تكون معارضا للسلطة ولو عارضت مصالح شعبك في سبيل ذلك).


ما جدوى فكرة المقاطعة غير المحدودة بوقت؟


قاطعت الدول العربية مصر، كما اتخذت الجامعة العربية قرار المقاطعة لإسرائيل منذ عام 1948، وحتي بعد الاتفاقات السياسية لا تزال المقاطعة الاقتصادية والثقافية قوية، لدرجة أن البعض يتحدث عن( جريمة تطبيع)، عندما يترجم كتاب عن العبرية أو كتاب لمؤلف إسرائيلي عموما.


فلسفة المقاطعة هي الدرجة الأعلى لفلسفة العقوبات.المقاطعة السياسية أو حتى الاقتصادية قد تحدث في أماكن  أخرى في العالم لمدة معينة، ولكنها لا تكون دائمة ومؤبدة (لاحظ مثلا أن قرار حظر تصدير النفط عام 1973 كان مفيداً للغاية  في حينه، بل ورفع أسعار النفط بعد ذلك بشكل دائم)، أما المقاطعة الثقافية والتي خلقت تهمة «التطبيع الثقافي» هذه فلا أظن أن هناك مثيلاً لها.


الواقع من حولك يخبرك بالتالي: 


1- أن مصر لم تتراجع عما تراه يحقق مصلحتها رغم المقاطعة، حتى لو كلفها خسائر سياسية جعلتها معزولة في المنطقة لفترة.


2- أن الدول العربية  لها مصالح أجبرتها على اتخاذ سياسات أكثر عقلانية تجاه مصر ووقف مقاطعتها بمرور الوقت.


3- أن قرارات قمة بغداد لا يُمكن فصلها عن صعود عائدات النفط الذي تلا عام 1973، الذي نتج عنه تحول العراق وليبيا والجزائر ودول الخليج إلى دول ثرية في مقابل تراجع قوة مصر النسبية، الذي كان مستمرا منذ عام 1967 ولأسباب بعضها مرتبط بالحرب وبعضها مرتبط بالانفجار السكاني الناتج عن العودة من الجبهة، وبعضها ناتج عن أثر السياسات الاقتصادية الناصرية.


4- أن الثروة لم تكن وحدها عامل أمان للدول التي تمتلكها، فقد هددت إيران دول الخليج، ثم غزا  العراق الكويت، ثم غزت الولايات المتحدة العراق، ولم تنفع العلاقات الدولية أو ترسانة الأسلحة القذافي ،لأن الظروف الدولية لم تخدمه كما خدمته من قبل  لعقود.


5-أنه رغم اعتماد دول الخليج على التواجد الأمريكي بعد حرب الخليج، فإنه اتضح أن القوات الأمريكية قد تساعد ضد تدخل خارجي،  ولكنها لن تستطيع التعامل في وجه مشاكل داخلية عنيفة، ولهذا كانت قوات "درع الجزيرة" هي من ساعدت على حماية استقرار البحرين عام 2011 ، بل إن التأييد الخليجي القوي للإطاحة بصدام عام 2003 لم ينتج عنه سوى تمدد للنفوذ الإيراني على حساب الخليج، قبل أن تكتمل المشكلة بانسحاب القوات الأمريكية، لتصبح نتيجة العملية الوحيدة هي تسليم العراق لإيران، بل ومنح إيران وسوريا القدرة على ضرب المزيد من النفوذ الخليجي في لبنان باغتيال الحريري.


 وحتي الضربة التي تم توجيهها للمحور الإيراني بإخراج القوات السورية من لبنان كانت نتيجتها زيادة النفوذ المباشر لإيران في لبنان، كما أن  الأذرع الأيديولوجية الموالية للسعودية لم تكن أبدا تابعة أيديولوجيا لها بنفس التبعية الأيديولوجية التي تحملها الأذرع الإيرانية لمرشد طهران.


6- أنه على مدى سنوات لم تنجح السياسة الحذرة التي اتبعتها الدولة المصرية في ملف العلاقات العربية الإسرائيلية بدعوى عدم استفزاز العامة  في تجنيبها خطر عدم الاستقرار في النهاية.


فالحكومة المصرية ظلت تتجنب توعية الناس ومكاشفتهم بالحقائق، بل وتستجيب أحيانًا لمزايدات القنوات التحريضية ضدها برفع درجة الخطاب الشعبوي الموجه ضد إسرائيل، بل وأحيانا كانت تستخدم إسرائيل كمبرر لأي مشاكل تواجهها من ظهور أسماك قرش إلى المشاكل النيلية.


تستطيع أي دولة في المنطقة أن  تقوي علاقاتها كما تشاء بخصومنا، والذين يأتي على رأسهم تركيا وقطر والإخوان، ففي النهاية صديق صديقي ليس بالضرورة صديقي، كما أن أي  طرف يعتبره الأصدقاء عدوًا ليس بالضرورة عدونا، فعدو صديقي ليس بالضرورة عدوي، الشيء  الوحيد الأقرب للحقيقة هو أن عدو عدوي صديقي.


القضية إذن أن نحدد عدونا ونعرف كيف حددنا العدو وبأي معايير وهذا ما فعلته في مقال سابق بعنوان «إسرائيل ليست العدو».


لمصر اليوم مصالح هائلة مع إسرائيل تبدأ من استيراد الغاز الإسرائيلي لإيجاد حل سريع لأزمة الطاقة، مرورًا بإلغاء قضايا التحكيم المرفوعة ضد مصر في قضية تصدير الغاز المصري الذي فجر أنابيبه الإرهابيون وصفق لهم السفهاء، ووصولا لكون  خصوم الدولة المصرية هم  حاليًا خصوم إسرائيل


 بل وهناك هدف ثقافي مهم أيضًا، فجزء رئيسي من الهوة الثقافية التي تفصل سكان هذه المنطقة عن باقي العالم هو عزلتهم الفكرية، فتبنيهم لفكرة المقاطعة باستمرار لإسرائيل أو لأمريكا أو للغرب، خلق عداوة بينهم وبين العالم تجذرت في نفوسهم حتى لو عجزوا عن المقاطعة، بل وأصبح عجزهم دافعًا لمزيد من صناعة الكراهية والغضب ونظريات المؤامرة.


فالمجتمع المصري كان  أكثر انفتاحًا قبل ستين عامًا، لأن الرأسمالية علمتنا أن التطور هو قرين المنافسة والمنافسة قرينة التنوع، والتنوع لا يظهر إلا في وجود التسامح، غياب التسامح أنهى شكل المجتمع المتنوع، فقاد إلى انحطاط وتخلف.


وكان كذلك لأن الرأسمالية علمتنا أيضًا أن حرية التجارة هي بديل الحروب، ليس فقط لأن التجارة تفتح باب المنفعة للطرفين بدلا من اللجوء للقوة لتحقيق منفعة طرف واحد، ولكن لأن التجارة تعلم الشعوب التعايش مع مختلف أنواع وأشكال البشر.


إذا أردت مواجهة الإرث الفكري الذي يمنعك من الحركة للأمام، فعليك أن تنهي طوطمية القوميين العرب وتيارات الإسلام السياسي، وطوطمهم الأساسي هو العداء لإسرائيل.


اكسر باب الحظيرة مرة واحدة وإلى الأبد.