حلم توحيد الخطاب الديني
نُخطئ إذا شخصنا ما يحدث في مصر باعتباره نتيجة خطاب ديني واحد، يحتاج للمراجعة والتصحيح فإذا اعتدل الخطاب اعتدلت الأمزجة والطباع وأضحى كل شبابنا وطنيين، يعرفون مقاصد الدين، يقيمونه في حياتهم إطارا أخلاقيا تعتدل به حياتهم وكافة شؤونهم.
الخطاب الديني في النهاية هو انعكاس لتصور راسخ لمعارف دينية متنوعة، توقف تجديدها والاجتهاد لها وفيها منذ نهاية القرن الرابع الهجري. وبافتراض أن هذا الخطاب الديني هو سبب ما نعانيه، فعن أي خطاب ديني نتحدث هل هو خطاب مؤسسة الأزهر الشريف الحالي بمفرداته، التي تعكسها مثلا خطب الجمعة في أكثر من مائة ألف مسجد لا تسيطر الوزارة سوى على 60 % منها ، بينما لازالت 40 % من تلك المنابر بعهدة الطيف الإسلامي الحركي سلفي أو إخواني أو جهادي أو حتى من غير تلك الأطياف الحركية، من نماذج الفوضى الفكرية التي نعيشها في ظل تعدد نسخ الخطاب الديني بين خطاب ديني رسمي تغير بتغير مستوى أداء الأزهر الشريف.
لو قارنا بين عصر ذهبي كانت كل المذاهب الإسلامية تدرس فتصنع ذائرة فقهية مميزة تسعف المشرع باجتهادات الفقه الإسلامي في كل المذاهب، بما أضفاه ذلك من روح القبول والانفتاح والقدرة على الحوار البنّاء وتأمين ثقافة متسامحة، ذلك قبل أن تجتاح الأزهر رياح أتت من السلطة السياسية في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فحرفت بوصلة المؤسسة الأزهرية وجعلت خطابها أكثر اقترابا من السلطة السياسية وربما أحيانا التبرير لمواقفها واجتهاداتها، بالشكل الذي جعل المؤسسة تراوح الموقف بين اليمين واليسار فتؤيد وتشرعن توجه الدولة الاشتراكي مرة، ثم الرأسمالي مرة أخرى، خصوصا بعد الحقبة النفطية التي حملت رياحا جديدة للمذهب الوهابي، الذي زامل اتجاهات أخرى أفقدت الأزهر في تقديري استقلاله الفكري، بعدما فقد استقلاله المالي بعد نزع أوقافه منه.
وتكالبت تلك العوامل من التوظيف السياسي الضار، إضافة إلى تسلل المذاهب والاتجاهات الحركية في إضعافه علميا وفنيا، وانسحب المخلصون إلى زوايا الصمت حزانى على الأزهر الذي تراجع، وبالتوازي مع هذا الخطاب الديني الرسمي الذي جسده الأزهر على اختلاف نسخه بين العهود، سواء العهد الملكي الذى عرف شيوخا ناهضوا الملك وسياسته ونصحوه حسبة لله ولرسوله، أو العهد الناصري الذي ساهمت معركة الإخوان مع الدولة في دفعه إلى تأميم النشاط السياسي والديني معا، بالشكل الذي جعل المؤسسة الدينية الأزهرية أقرب إلى فرع من فروع السلطة التنفيذية، وكان ينبغي لها أن تبقى سلطة ضمير تقدم النصيحة وتجلى مراد الشارع الحكيم، وتنير للمشرع طريقه وكيف يتقيد القانون بمبادئ الشريعة الغراء.
التقت بيروقراطية الدولة التي أصبح الأزهر أحد مؤسساتها، مع وقف الاجتهاد وغلبة روح التقليد مع الضعف العلمي للمؤسسة، فضلا عن الإصرار على تضمين التعليم الأزهري كليات عملية ربما بنية سليمة في تخريج أطباء ومهندسون، يكونون رسل دعوة في أفريقيا والعالم، لكن ثبت أن تلك الازدواجية أضرت المؤسسة التي هي بالأساس مؤسسة علمية تدرس علوم الدين.
تعددت جهات الخطاب الديني الرسمي بين أزهر وأوقاف وفتوى، وربما كان من الأجدى أن يكون الأزهر ومن خلال هيئة كبار العلماء المنتخبة بضوابط واضحة، تضمن جلال وبهاء تلك الصفة الرفيعة هو الجهة التي تضم وتنظم التعليم الأزهري والنشاط الدعوى في المساجد وهي من تطلق الفتوى، لكن ربما تصورت الأنظمة المختلفة أن هذا الدمج قد يضيق فرصها في التحكم في تلك المؤسسات، وقد تنتصب لتكون لاعبا سياسيا في مرحلة من المراحل التي من الممكن أن يقفز على رأسها من يناصب الدولة العداء، أو يكون عضوا في أي كيان حركى من الكيانات التي ظلت تستهدف اختراق الأزهر.
لكن ما تصدقه تجربة التاريخ أن الأزهر عندما كان قويا استعصى على الاختراق وأفرز رموزا فذة كالمراغي ودراز، بينما في حال ضعفه أمكن اختراقه وأنتج من اخترقوه خطابا دينيا غير رسمي، نافس الخطاب الرسمي واجتذب شرائح واسعة أفرزت تلك التيارات الحركية، التي مثلت بدرجات متباينة التناقض مع مسيرة الدولة الوطنية.
إن الخطاب الديني الواحد هو الحلم الذى ينبغي أن يشغلنا، توحيد المرجعية التي يجب أن تكون قوية ونتاج تكامل في الرؤى بين العقلاء من رجال الأزهر وكل العقلاء من التيارات الحركية المختلفة، بالشكل الذي يبدد حيرة الناس بين أكثر من خطاب ومسلك وهذا ما أظنه فرض الوقت.