التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:01 م , بتوقيت القاهرة

حربٌ لا يُشرفنا خوضها

حسنًا فعل الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتأكيده في حواره المهم مع قناة العربية، على عدم وجود ما يُسمى بإعلاميين مقربين من الرئاسة، وأن الرئاسة تقف على مسافة واحدة من الإعلام المصري بكل أطيافه، دون تفضيل طائفة أو اتجاه صحفي على آخر.

لعل هذا التصريح يضع حدًا لادعاءات البعض من مقدمي برامج التوك شو، والصحافيين تلميحًا أو إيحاءً، بقربهم من دائرة صُنع القرار الرئاسي، وتنصيب أنفسهم عرافين يقرؤون الطالع السياسي، ويتنبؤون بالقادم من قرارات.

الأكثر خطورة أنهم يتطوعون بافتعال معارك بالوكالة مع أطراف داخلية وخارجية، يعتقدون أنهم ينوبون بتلك المعارك عن الدولة ويحاربون حربها المقدسة، بحملات نقد وتجاوز، تُسبب حرجا لمصر الرسمية.

لست أدري لماذا تبدو مصر للراصد، وكأنها أكثر من مصر واحدة، مصر التي في الشارع والبيت والمصنع، ومصر التي على "فيس بوك" و"تويتر" و"الواتس آب"، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، مصر التي تعمل وتواجه الإرهاب يوميًا في الشارع والقطار وبجوار محولات الكهرباء وأبراج الضغط العالي وعلى الجبهة، ومصر أخرى تختفي خلف الكيبورد، تقود حرب الهاشتاج المُحمّل بالإساءات ولغة التدني، والتغريدات النارية، التي لا تعدو كونها فقاعات صابونية تتلاشي قبل أن تُولد.

مصر السابحة في فضاء الشبكة العنكبوتية تقود حربًا في غير موضعها، حربًا فضائحية ضد قطر ومن يمثلها، متسلحة بالخوض في الأعراض والطعن في الأخلاق، والسباب الضحل، الذي يباهي بسذاجة مفرطةٍ بكِبر مساحة مصر، وصِغر مساحة قطر، بقِدم عُمر مصر، وحداثة عُمر قطر، بكثافة سكان مصر، وضآلة سكان قطر. وهكذا سيلُ من المقارنات الصبيانية التي تخلو من شرف الخصومة، ومعقولية المقارنة، وتَرفُع الأقوياء.

طوفان من السباب، وتعليقات الإساءة التي لم تدع نقيصةً، إلّا وخاضت بها مصر الإعلامية، ومصر الافتراضية مع الخائضين، ظنًا من مُشعليها أن مصر ستنتصر على ما يُحاك لها من مؤمرات، بقذائف الردح الشبكى، وصواريخ السباب الهاشتاجي، لتبدو مصر التي علّمت الدنيا التمدن وتقاليد الحوار، وعدم الفجور في الخصومة، وكأنها سيدة سوقية، تكيل اللعن لجارتها في حارة بقاع المجتمع.

المدهش أن يتورط في هذا السلوك كُتابُ وصحافيون وبرامجيون وفيسبوكيون، كنا نحسبهم على معسكر التعقل. تتصفح الفيس بوك لتجد أناسا يخوضون حربا عبثية مع اللا شيء، ويدخلون في مبارزات عدمية مع عدو شبحي، لا يأبه ولا يشعر بصليل صوارم الواي فاي، وزئير أسود استديوهات المساء. أكاد أشك أن قطر باتت تسعد بتوترنا وعصبيتنا، لتبرهن لنفسها ولمحيطها، علي حالة الخُواء، الذي يمرح في نفوس النُخب المصرية التي "وضعت الحرب بغير مكان الحرب، وحيث الحربُ، تقلدت سيفين من الخشب" مع الاعتذار لشاعر العروبة المُطارد مُظَفر النُواب.

كم من المعارك ينبغي أن نخسر، حتى نتعلم كيف ندير معاركنا بدهاء الأقوياء؟ لماذا في كل مرة نقدم لخصومنا مكاسب مجانية، بجهلنا ونزقنا وضحالتنا؟ للتذكرة فقد تم تعبئة الشعب المصري قبل سنوات ضد الجزائر الشقيقة، بسبب مباراة كرة قدم، حينما قاد إعلاميون جهلاء حربًا قذرة ضد الجزائر وشعبها، وسخروا حتى من شهدائها في معارك التحرير، وكنا أضحوكة أمام دول عربية اعتادت مناصرة مصر في قضاياها، لكنها سخرت وقتها من تجييش المصريين، في حرب مقدسة لتحرير كأس العالم من قبضة الغزاة.

تكررت نفس المأساة مع أثيوبيا، وخرج من بين ظهرانينا من يُحقِر من شأنهم، ويُهَون من حالهم، ويطالب بدك أثيوبيا بالطائرات، وكالعادة دفعنا ثمن ذلك، هزائم دبلوماسية على المستوى الإفريقي مازلنا نداوي آثارها حتى اليوم. دعوني أغرد خارج السرب وأقرر أن شعب قطر، شعب عربي شقيق، بل وأكاد أجزم أنه يحب مصر والمصريين، مع قناعتي التامة أن القيادة القطرية لا تحمل لمصر خيرًا، وهذا أمر له مجاله الذي يُعالج من خلاله دبلوماسيًا واستخباراتيًا بدهاء وحنكة، وليس بانفعالية وصبيانية خائبة.

هناك العديد من علامات الاستفهام على سلوك حكام قطر "السياسي"، ودعمهم لأطراف مناوئة لإرادة المصريين، بل وإلحقاهم أذىً مباشرا بمصر، فلنذهب أبعد من ذلك، ونقول إن هناك من يشتبه في تواطؤ حكام قطر مع أطراف لا تريد خيرًا لمصر، هل نحن من الغباء بحيث ندير مع قطر حربًا عبثية، تخلو من ذكاء وفروسية ونُبل المصريين؟ حرب يقود طليعتها إعلاميون انفعاليون متهورون والأهم تخلو من دهاء وكياسة إدارة الحروب الدبلوماسية والاستخباراتية، جنودنا يقودون حرباً شريفة علي الأرض في سيناء.

لماذا نقود نحن حربًا غبية في استديوهات الهواء؟ هل نحن بحاجة للمرة المائة، إلى إعادة تكرار سرد حكاية الدبة التي قتلت صاحبها، وهي تظن أنها تحسن صنعًا؟. ما هكذا تُورد الإبل يا نُخبتنا، لا تكونوا سبب نكبتنا في أيامنا الصعبة، توقفوا قليلا عن الصراخ والاستعراض، من أجل المزيد من نسب المشاهدة، والمزيد من إعلانات الشيبسي والكولا، ومساحيق الغسيل التي تغسل أكثر بياضًا، لستم أكثر وطنية من البسطاء على المقاهي، الذين قادتهم فطرتهم السليمة، وتحليلاتهم إلى حلول أعقل وأكثر حكمة ورزانة.

أنفق المرحوم الفنان مصطفى حسين كارتونيست مصر الشهير، سنوات من عمره، يرسم مُعمر القذافي، جالسًا بمؤخرة عارية، على قصرية أطفال، سخرية منه في سنوات قطيعة مصر مع ليبيا، حتى استيقظنا ذات صباح لنجد حسني مبارك ضيفًا في خيمة القذافي وبصحبته نفس الصحافيين الذين كانوا قبل قليل، مشاعل حروب مذمَّات القذافي مع تحفظنا على غرابة أطوار عقيد ليبيا في ذلك العهد.

 يا نُخبة مصر، يا سادتنا البرامجيين، يا أبطال الهواء، خذوها مني أنا المصري البسيط الذي بهره ضوء شاشاتكم، وزيف حماسكم، وجمال ديكوركم، خذوها من شخصي المغتاظ حلقة في أذانكم كالإير بيس؛ "أحبب حبيبك هونا ما، عسي أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسي أن يكون حبيبك يوما ما".

صدقوني منطقتنا تتلظى فوق صفيح ساخن، والتحالفات الحقيقية لم تظهر بعد، لا أريد أن أراكم يوما ما تحت خيمة أمير قطر، تحتسون القهوة بالهال أو القهوة بالمر، لا تتسرعوا بخوض حروب صغار لا يشرفنا خوضها، حروب تلهينا عن معركتنا الحقيقية مع التطرف والإرهاب والجهل ونظم التعليم السقيمة. دعوا قطر للدبلوماسية ورجال الاستخبارات وإدارة التوازنات، دعوها فقد تكون مأمورة، والكلام قد يكون مع آمرها الذي في البيت الثلجى.