التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 08:55 م , بتوقيت القاهرة

فتش عن الأصولية الدينية

ماقام به تنظيم داعش من حرق للطيار الأردني معاذ الكساسبة، ومن ذبح لـ 20 مصرياً مسيحياً، إضافة لشخص مسيحيّ آخر ينتمي لدولة "غانا" على أحد الشواطئ الليبية، يعد جريمة نكراء في حق الإنسانية وعملا إرهابيا دنيئا.


وهنا لا بد أن نُسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية بعيداً عن تزييف الواقع لأنّ الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة، تموت عادةً نتيجة تناول الدواء الخطأ، فالطبيب الأمين في عمله لا يقبل على نفسه أن يخدع مريضه المصاب بالسرطان ويقول له إنك مصاب بالأنفلونزا.


وتكمن المشكلة الرئيسة التي تدفع هؤلاء السفاحين لارتكاب جرائمهم في الأصولية الدينية التي تتبنى تفسير النصوص الدينية بحرفيتها منزوعة من سياقها التاريخي والحضاري. والأصوليون الدينيون يقومون بالتفسير دون اعتبار لأي علوم ومعارف إنسانية، وبتجاهل واضح لكل تقدم حضاري، وبتجاوز سافر لجميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومن ثم يترتب على ذلك الترويج لبعض الأفكار التراثية البالية التي عفا عليها الزمن منذ زمن، والتي تتطلب عقولاً ناقدة لدحضها ورفضها والتعامل معها في ظل سياقها التاريخي والحضاري.


أما وأنْ يتم استدعاء مثل هذه الأفكار والأفعال الهدّامة اليوم، وبتجاهل واضح ومتعمد لكل تقدم أحرزته الإنسانية على مدار القرون الماضية، فهذا تدمير للحضارة الإنسانية، ومن ثم فإن مكافحة الإرهاب تستلزم مواجهة أمنية ومواجهة فكرية، كما أن محاربة الإرهاب تتطلب قصفًا فكريًا يتزامن مع القصف الجوي، واحتياجنا في المرحلة الحالية لمثقفين أكْفاء لا يقل أهمية عن احتياجنا لجنود بواسل.


ولا سبيل للقضاء على الأصولية الدينية سوى بإحياء تراث ابن رشد، ذلك التراث الذي دفناه في شرقنا فتخلفنا بينما أحياه الغرب فتقدم، ففي الوقت الذي يُتهم فيه ابن رشد بالكفر والزندقة، وتُحرق كتبه في قرطبة، ويُنفى إلى قرية من القرى التى كان يسكنها يهود الأندلس تعبيراً عن أنه لم يعد مسلمًا، ولم يعد يستحق أن يعيش مع المسلمين، نشأ في العالم الغربي تيار الرشدية اللاتينية، ذلك التيار الذي مهد لبزوغ الإصلاح الديني في القرن السادس عشر والتنوير في القرن الثامن عشر، وحدث كل ذلك على الرغم من اضطهاد السلطة الدينية لذلك التيار.


لقد كان المثقفون الأوروبيون فى إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا يكتشفون ابن رشد، ويترجمون مؤلفاته إلى العبرية واللاتينية، ويتأثرون بها، ويتحررون من سلطة الكنيسة ويحتكمون للعقل فى فهمهم للإنجيل، ويستعيدون علاقتهم بالفلسفة والمنطق، ويخرجون بالتالي من عصور الظلام إلى عصر النهضة الذي انتقلوا منه إلى عصر الاستنارة الذي انتهى بهم إلى هذا العصر الحديث، عصر الديمقراطية والعلم وحقوق الإنسان.


وترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون، فمن أقواله:"الحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل"، و"الله لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها"، و"اللحية لا تصنع الفيلسوف" وابن رشد معروف بفلسفته التي شرح فيها فلسفة أرسطو، وانتصر فيها للعقل، واحتكم له فى فهم النصوص الدينية، ولجأ فى ذلك إلى التأويل الذى يزول به ما يبدو أحياناً من تناقض بين ما يقوله النص وما نعرفه بعقولنا وتجاربنا.


والتأويل كما يعرفه البلاغيون هو إخراج المعنى الذي يدل عليه اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، فاليد كلمة تشير إلى هذا العضو الذي نمسك به الأشياء ونتمكن من الوصول إلى ما نريد، وهذه هي دلالتها الحقيقية التى ننتقل بها أو نجتاز إلى الدلالة المجازية، أي إلى الإشارة لفعل اليد ووظيفتها بدلاً من الإشارة إلى جسمها.


وعلى ذات القياس فإن وجدنا فى النص الديني ما لا يتفق مع العقل وجب علينا أن نؤوله أي نفهمه بالمعنى الذي لا يتعارض فيه الكلام مع ما نعرفه ونثق في صحته، ومنهج ابن رشد من شأنه أن يجعل العقل مرجعاً يحتكم له الجميع حين يختلفون فى فهم النصوص، ومن شأنه أن يعترف للإنسان بمسؤوليته وجدارته بأن يختار ويفعل، ومن ثم فالإنسان فى فلسفة ابن رشد كائن حر لأنه كائن عاقل.


ومن المؤسف أنه منذ أن سقط منهج ابن رشد، سقط العقل العربى، واستسلم للنقل والتقليد والطغيان، وتنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية حول العالم يقتل ويذبح ويحرق لأنه محكوم بأفكار الأصوليين الدينيين وبفقه ابن تيمية الذي عاش في القرن الثالث عشر والذي كفر ابن رشد بسبب قوله بإعمال العقل في النص الديني، وهؤلاء القتلة والإرهابيون قد تجمدوا عند القرن الثالث عشر عندما اكتفوا بابن تيمية المكفر لابن رشد.


ففكر ابن تيمية القائل: "بأن تأويل النص الديني بحسب فهم ابن رشد هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، هو الأساس الذي قامت عليه الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر، وجماعة الإخوان المسلمين في القرن العشرين، ومن هنا فلاحل ولا ملاذ إلا في إحياء التراث العقلاني الذي دعا إليه ابن رشد حيث أنه هو الحل في مواجهة الأصولية الدينية التي رسخ لها ابن تيمية.


إذا مشكلة الإرهاب الرئيسية تكمن في الأصولية الدينية


والعلاج الرئيسي يكمن في تأويل النصوص وإعمال العقل


فهل من مجيب قبل أن يقضي الأصوليون على الأخضر واليابس؟!!