التوقيت السبت، 02 نوفمبر 2024
التوقيت 11:21 م , بتوقيت القاهرة

المعركة الأخيرة مع داعش

في مرحلة دراستي الثانوية،كان لدي معلمة تُدعى هدى، ترتدي "الخمار" وهو لباس غريب وقتها، كان في بداية انتشاره، "أبلة هدى" كانت تحبني كثيراً لتفوقي في الدراسات الاجتماعية، وكانت تترك لي فى بعض الأحيان شرح الدرس بدلاً منها في مادتي علم الاجتماع والتربية الوطنية.


كانت صغيرةً في السن، ومتحمسة للغاية تجاه أي موضوع تتحدث فيه، حدثتنا في إحدى المرات عن صديقتها التي سافر خطيبها للجهاد في أفغانستان، لا أتذكر مناسبة الحديث، هل كان قد "استشهد" مثلاً أم أن مجرد سفره وحزن صديقتها لفراقه وفخرها في الوقت نفسه كان موضوع الحديث؟ بدت هدى نفسها شديدة الحماس والفخر بخطيب صديقتها، وبدا واضحاً في عينيها انتظارها هي الأخرى لخطيب "مجاهد" مثله.


انتهت المرحلة الثانوية، والتحقتُ بالجامعة، ثم عدت إلى مدرستي ذات يوم، سعيدة للغاية وفخورة بنفسي وأنا ألتقي المعلمات والمعلمين وأنا طالبة جامعية، حتى ألتقيت بهدى، بالطبع كان مظهرى مختلفاً، لست تلميذة ترتدي الزي المدرسي وتعقص شعرها، بل شابة اختارت ارتداء أكثر ملابسها أناقة وهى تزور مدرستها، وتضع قليلاً من المساحيق كعادة بنات جيلنا.


نظرت إلى هدى نظرة تشي بالصدمة والحسرة، وأشاحت بوجهها عنى بعد أن ردت التحية بفتور، ورغم صدمتي من ردة فعلها، إلا أني فهمت تمامًا أن ذلك هو استهجان لمظهري ولشخصي بالضرورة.


هدى ومثيلاتها، استطعن تحويل التلميذات في مدرستي لأغلبية محجبة في أقل من ثلاث سنوات، حتى أني كنت الوحيدة تقريبًا في فصلي التي لا ترتدي الحجاب (والمسيحيات طبعاً)، وبدأ انتشار "الخمار" وشهدت المعارك بين مديرة المدرسة والتلميذات لأنها اعتبرته مخالفة للزي المدرسى، ثم معارك "النقاب"، حين كان بعض أولياء الأمور يتبعن فتياتهن للمدرسة فيكتشفن ارتدائهن له، فيثوروا ويجبروهن على خلعه ثم يستسلموا فى النهاية.


ورأيت التحول فى سلوك الفتيات من النقيض للنقيض، ثم انفصالهن في مجموعات، ولن أنسى اليوم الذي قررت فيه صديقتان واحدة منتقبة والأخرى مسيحية أن تمسك كل منهما بيد الأخرى، نكايةً فى الرافضات لصداقتهن من الطرفين، فوقفت الفتيات كلهن فى سلم المدرسة ينظرن إليهن كأعجوبة، لا أنسى أيضًا الفتاة التي جاءت تحذرني بأن علاقتي بزميلة مسيحية تلقى استهجان باقي زميلاتنا وعليّ ألا أصادقها، ومعاناة هذه الزميلة نفسها لأن صديقاتها يرفضن صداقاتها لمسلمات.


أذكر أيضاً معلم اللغة العربية والدين الإسلامي، الذي شرح لنا باستفاضة درسًا رآه مهمًا فى كتاب الدين المدرسي، يقول إن زواج المسلم من الكتابيات يتطلب التأكد من أن جدودهن آمنوا بالإنجيل قبل تحريفه، وبالتالي فإن المسيحيات الآن الزواج منهن حرام، بالمناسبة هذا المدرس نفسه أصابته فضيحة كبيرة بعد امتحانات نهاية العام،حين اتضح أنه أخذ أموالاً من أولياء أمور طالبات لإنجاح بناتهن، لكنهن رسبن.


ولا أنسى كذلك معلمتى الرياضيات والإنجليزية المسيحيتين،كانتا تعطيان دروسًا خصوصية مجانية للطالبات المسيحيات فقط فى فترة "الفسحة"!.


الطالبات اللاتى انفصلن عنا، وشكلن مجموعات أصبح لها عالمها الخاص ولباسها الخاص وكذلك سلوكها، تمت خطبة كثير منهن وعقد قرانهن قبل نهاية الثانوية لـ"إخوة"، والتحقت أغلبيتهن بكليات التربية لا غيرها، وأصبحن معلمات.


حدث ذلك منذ عشرين عاماً، ونحن الآن نتعايش تمامًا مع جيل ربته العقلية التي كانت تفتخر بالجهاد فى أفغانستان، وتحرض الفتيات على التمرد على أسرهن لأجل الجماعة، والتى تنفصل عن المجتمع لكنها تريد أن تحكمه، هذه العقلية التى زرعت بنفسها خلايا داعش في مصر، لذا لا تعتقدوا أن داعش ستأتي من الخارج، فهى لا تقف على الحدود وحسب؛ بل أن ظهيراً لها يطمئنها باستعداده للانقضاض فى لحظة الصفر.


أي تجاهل لهذه الحقيقة يعني أن أي جهود لحماية حدودنا هي بلا جدوى، تماماً كمن أغلق بابه بألف قفل لكنه ترك شبابيك البيت مفتوحة.


معركتنا الآن هى الأخيرة، فإما النصر أو الهزيمة للأبد، لا نتائج غير ذلك، الحرب تبدأ من الداخل؛ فإن أغمضنا أعيننا أتت النهاية بظلها الثقيل تحمل ما لا نتمناه.