أحكام أهل الذمة (3)
(1)
قبل الإسلام، كانت شبه جزيرة العرب محاطة بأهل الكتاب، أو بالمسيحيين منهم على وجه الخصوص، من كل جانب. وبعد المد الاستعماري الذي نتج عنها اختلاط الأميين بالكتابيين، تحتم وجود مدونة تشريعية يسجل فيها الفقهاء كل ما يُستجد من قضايا. لهذا السبب شغلت أحكام أهل الذمة مساحات كبيرة من كتب التراث، إذ خصص لها الصناعني كتابا باسم «أهل الكتابين» في مصنفه الذي دونه في القرن الثالث الهجري، وفي القرن الرابع جمّع أبو بكر الخلال في «أحكام أهل الملل والردة» آراء الإمام أحمد.
وقد شغلت الأحكام ذاتها مساحة شاسعة في مؤلف البيهقي «معرفة السنن والآثار» الذي صدر في القرن الخامس. وفي القرن الثامن خصص ابن تيمية في «مسألة الكنائس» كتابا حمل الاسم ذاته، ناهيك عن تطرقه للقضية بعمومها في «مجموع الفتاوى» الذي شغل فيه أهل الذمة مساحة كبيرة جدا، وكذلك كتابه «نقض المنطق».
أمّا فيما يخص موضوع الجزية تحديدا، فقد كتب فيها ابن زنجويه، في القرن الثالث، تحت عنوان «الأموال»، وبنفس العنوان، وفي نفس القرن، كتب بن أبو عبيد بن سلام. وكتب عنها الدميري في مؤلفه «شرح المنهاج» في القرن السابع. وفيما يخص كيفية جبايتها، فقد تطرق إليها الشيزري في كتابه «نهاية الرتبة» الذي صدر في القرن السادس، وكتب عنها ابن الأخوة في مؤلفه «معالم القربة» في القرن الثامن.. وبخلاف كتب التاريخ، تلك هي المراجع التي اعتمدت عليها - بشكل أساسي - أثناء تحضير هذا البحث. وفي كتابه «أهل الذمة في مصر العصور الوسطي» ذكر الدكتور قاسم عبده قاسم العديد من المراجع التي لم يتح لي الرجوع إليها.
وقد آثرت التوطئة بالإشارة إلى المراجع للتسهيل على القارئ الراغب في الاستزادة، بيد أنني سأركز في قادم المحطات على المؤلف الجامع في هذا المضمار، «أحكام أهل الذمة»، الذي كتبه ابن القيم، في ثلاثة مجلدات جاءت فيما يقارب الألف وخمسمائة صفحة، نقل فيها وفند معظم ما دون في القرون السابقة على اختلاف المذاهب فيه.
وسنتوقف أثناء رحلتنا عند محطتين أساسيتين، الأولى: موقف الإسلام من تولي المسيحيين الوظائف الإدارية في الدولة، وسنركز فيها على فقه الواقع. والثانية: كيف نظم الإسلام العلاقات الإنسانية بين المسلم والمسيحي، بحسب المدونة الفقهية والحديثية.
(2)
لما علم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن أبا موسى الأشعري قام بتوظيف كاتب مسيحي، استشاط غضباً وقال له: قاتلك الله! أما سمعت قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى? أَوْلِيَاءَ ?بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ? وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".؟! ولما طالت معاتبة الفاروق لأبي موسى على سوء تقديره رد عليه بالقول: يا أمير المؤمنين! لي وظيفته، وله دينه.
لكن هذا الرد العلماني، الذي فرّق فيه أبو موسى بين هوية الموظف الدينية وما تقتضيه المصلحة الدنيوية، ما كان ليلقى قبول الفاروق عمر، الذي عقب عليه بصيغة أكثر وضوحا فقال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. ويزيد ابن كثير، في تفسيره، على هذه الرواية التي استشهد بها ابن القيم فيقول إن عمر - رضي الله عنه – كان في بادئ الأمر قد أعجب بأداء الموظف المسيحيّ، وأثنى عليه أمام أبي موسى، بيد أنه لما علم بأمر ديانته، جاء رد فعله بهذا الشكل، وكعادته، ضرب أبي موسى.
وجاء في خطابه – رضي الله عنه - لأبي هريرة، أثناء ولايته على البحرين: «أما بعد... أقم الحدود ولو ساعة من النهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى. عُد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم، وأبعد أهل الشر وأنكر أفعالهم ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملا لأثقالهم».
وحين اتسعت رقعة الدولة في عهده، وأعقبها زيادة في حجم الأموال والموارد، للدرجة التي استحال معها قيام المسلمين وحدهم بإدارة كل الوظائف، كتب إليه بعض الولاة، يستشيره في استعمال أهل الذمة من المسيحيين قائلاً: إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلينا بما ترى. فجاء الرد العمري حاسمًا قاطعًا إذ قال: لا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال.
وأصدر مرسوما استثنائيًا بقرار جاء فيه: أما بعد، فإنه من كان قبله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يؤازره ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله ? لم يأمر باستعمالهم، ولا خليفته من بعده.
وعلى الجانب الشخصي؛ كان لعمر - رضي الله عنه- عبد مسيحي، وكان يريد أن يستغل مهاراته ويوظفه، فقال له: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فرفض الإسلام، فأعتقه عمر وقال: اذهب حيث شئت.
وما فعله عمر بن الخطاب في شأن توظيف أهل الذمة، كان قد طبقه حفيده، عمر بن عبد العزيز، إذ أصدر مرسوماً بقانون عممه على جميع الولاة في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية جاء فيه: «أما بعد، فإنّ عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ"، جعلهم الله حزب الشيطان وجعلهم "الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا".
وقد بلغني عن قوم من المسلمين أنهم استعانوا بأهل الشرك في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله تعالى، فلا أعلمن أن أحدا من العمال أبقى في عمله رجلا على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم، وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار».
وفي المرسوم ذاته، وبعد أن أمر بمنع اليهود والمسيحيين من ركوب الخيل، أوصى عماله بضرورة إبلاغه فوراً بنتائج ما تم تنفيذه من أوامره، إذ قال: «ليكتب كل منكم بما فعله من عمله».
وبموت خامس الخلفاء الراشدين، وتراخي الأمويين من بعده في تنفيذ الأحكام، عاد المسيحيون إلى تولي الوظائف مرة أخرى، إلى أن جاء الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فعزلهم، استجابة لنصيحة الفقهاء.
وفي زمن المهدي صدر عن ديوانه فرمان: «ألا يُترك أحد من أهل الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحدا من المسلمين استكتب أحدا من النصارى قطعت يده». وأرجو ألا يظن القارئ أن عقوبة قطع اليد تقع على الذي قام بتوظيف المسيحي أو الذمي، بل على الموظف المسيحي نفسه. إذ يعقب ابن القيم على ما ترتب على هذا الفرمان فيقول: «فقطعت يد جماعة من الكُتـّاب»!
وتكرر الأمر ذاته مع هارون الرشيد، الذي كان لا يمانع في حشد عشرات المئات من الجواري المسيحيات في قصره، لكن ما كان ليرضى أن يغضب الله ويخالف سنة رسوله بتعيين موظف أو كاتب مسيحي يكون له أمر السيادة على المسلمين ومصالحهم، فما كان منه إلا أن «صرف أهل الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضا منهم، وغير زيهم ولباسهم، وخرب الكنائس» وما كان قراره قرارًا سياسيًا أو اجتهادا دينيًا لكن كان فيما فعل متبعاً لسيرة من سبقوه، كما رأينا، و«أفتاه بذلك علماء الإسلام»، بحسب ما يؤكد صاحب الأحكام!
وللحديث، إن شاء الله، يوم الخميس بقية.
للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك