التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 12:53 م , بتوقيت القاهرة

أحكام أهل الذمة (2)

الآن، وبعد أن رأينا كيف كانت الشروط التي كتبها عمر بن الخطاب للمسيحيين، محل إجماع الفقهاء، ومنها استخلصوا الأحكام، وأثبتنا – بإيجاز شديد- كيف كانت تُطبق عملياً، قبل زمانهم على أيدي الخلفاء، وهو الأمر الذي سنستفيض في شرحه في قادم المقالات، يتوجب علينا أن نتوقف لنوضح نقاطاً أربع. 


(1) الشروط العمرية لم تكن وحدها الأساس النصي الذي استخلص منه الفقهاء أحكام أهل الذمة، بل سبقها ما روي عن النبي من أحاديث تعضد اتجاه عمر وتؤكد صحة شروطه، فبخلاف الأحاديث المشهورة من قبيل: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله ? يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما». رواه مسلم. وحديث عائشة رضي الله عنها: "لا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ" رواه أحمد. وحديث البخاري الذي جاء فيه أمر النبي: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». 


فقد جاء في مسند أحمد عن أبي عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - قال: «آخر ما تكلم به رسول ?: أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب». وعند البيهقي وبصيغة الأمر أيضاً: "أَخرِجوا اليهودَ والنَّصارى حتى لا يَبقى فيها إلا مسلمٌ"، وهو الأمر الذي لم يتثن لأبي بكر تنفيذه بسبب الحرب الأهلية التي قضى فترة خلافته يطفئ نيرانها، ثم نفذه عمر.
  
وروي عنه ? أن قال: "لا تكون قبلتان ببلد واحد". وهو حديث رواه أحمد وأبو داوود، وبناء عليه قال عمر بن الخطاب: «لا كنيسة في الإسلام». وعلى ذلك اتفق فقهاء المذاهب الأربعة، وقالوا لا يجوز أن تُبنى كنيسة أو صومعة أو بيعة في بلد مسلم، أو بلد استحدثه المسلمون أو فتحوه عنوة، وقد فسروا هذه الأحكام، بحسب ما يفيدنا ابن القيم، بالقول: "وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده، فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟" 


وهو تفسير لن يجد القارئ صعوبة في استنتاج أن تأصيليه لا يعتمد على الأحاديث المنسوبة للنبي فحسب، بل على النص القرآني أيضاً، والذي قال صراحة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وفي موضع آخر: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. 


(2)  ليس الذي قلناه للتو، بخصوص النص القرآني، مجرد تحليل، بل هو ما صرح به صاحب المؤلف الضخم "أحكام أهل الذمة" في موضع آخر، تحديداً في معرض تأصيله لإباحة استيلاء المسلمين على ممتلكات المسيحيين في البلاد المفتوحة، حين قال ما نصه: «ما فتحه المسلمون عنوة فقد ملّكهم الله إياه كما ملّكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار».  


ويوضح لنا المقصود بالعقار فيقول: «يدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض» أما عن المقصود بالمنقول فيشرح: «كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد»  ويؤكد علي أحقية امتلاك المسلمين لكنائسهم بالقول: «وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن مُلك المسلمين... وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين ?، و "يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".


ويردف: «ولهذا لما استولى رسول الله ? على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قينقاع والنضير وقريظة كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلت في قوله سبحانه: "وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وفي قوله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْهُمْ". وفي قوله تعالي: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى?".


(3) هذه الجزئية الأخيرة، الخاصة بما وقع أثناء الغزوات، تقودنا تلقائياً لأساس تشريعي أخر، سابق أيضاً علي الشروط العمرية، وهو سيرة النبي وسنته في تعامله مع الخصوم أثناء الحروب، والتي استخلص منها الفقهاء أحكامهم، وعضدوها بما أقرّه عمر في شروطه التي جاءت في أغلب بنودها موافقه لسيرته الشريفة ? في المجمل. 


فمثلاً؛ إذا لم يلتزم مسيحي بأحد الشروط يعتبر ناقض للعهد «أحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله» بيد أن هذا النقض لا يخضع لمبدأ لا تزر وازرة وزر أخري، إذ قد يُعاقب عليه كل المسيحيين، في البلد التي حدث فيها، وفي ذلك يقول ابن القيم مبرراً: «وبهذا مضت سنة رسول الله ? في ناقضي العهد، فإن بني قينقاع وبني النضير وقريظة لما حاربوه ونقضوا عهده عم الجميع بحكم الناقضين للعهد وإن كان النقض قد وقع من بعضهم، ورضي الباقون وكتموا رسول الله ? ولم يطلعوه عليه، وكذلك فعل بأهل مكة لما نقض بعضهم عهده وكتم الباقون وسكتوا ولم يطلعوه على ذلك، فأجرى الجميع على حكم النقض وغزاهم في عقر دارهم » ويضيف بلغة حاسمة قاطعة: «وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره»


(4) قد نفهم أن بعض من يُسمّون أنفسهم "باحثين" تزعجهم  تلك الأحكام، وقد نلتمس لهم العذر علي عدم التصريح، بافتراض أن نواياهم تضمر تقديم صورة حداثية للإسلام، تدعو للتسامح وقبول الآخر بصفته مواطن لا ذمي، صورة مغايرة للصورة التاريخية، لكن ما لا نفهمه ولن نقلبه بحال هو محاولاتهم البائسة دوماً المضحكة أحياناً لإنكار تلك الصورة التي دام بقاؤها قرابة ثلاثة عشر قرنا، وكأنها لم تكن. 


وإذ نؤكد علي أن إنكارنا  الشديد لمحاولاتهم "البهلوانية" يقف خلفه حرصنا علي الحقيقة التاريخية، نؤكد في الوقت ذاته أن تحديث الإسلام يعني، أول ما يعني، الاعتراف بما وقع في الماضي وعدم صلاحيته لمجاراة الحاضر، فذاك هو الجسر الوحيد الذي سيؤمن لنا العبور نحو المستقبل، ويحصننا من الردة إلي صحراء الفقه القروسطي. 


إن ما يفعله هؤلاء لا يعدو أكثر من تبييض صفحة التاريخ، وهو أمر من شأنه أن يفضي لا لتحديث الإسلام، بل إلي شرعنة الأصولية وتأصيل السلفية. تُرى هل سيفهم "الوسطيون الكيوت" أنهم مجرد "قنطرة" نحو الردة التاريخية؟! 


وللحديث بقية، إن شاء الله تعالي. 


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك