قبل الذبح.. وبعده (2)
أنهيتُ المقال السابق "قبل الذبح.. وبعده (1)" بسؤال فحواه لماذا عَامَلتْ الكاتدرائية أهالي الضحايا بإهمال وطردتهم دون شربة ماء حينما طرقوا بابها للتعبير عن غضبهم لقتل أولادهم؟!.. ومطالبتهم بالرد القوي على المذبحة الوحشية التي أودت بحياتهم والقصاص من القتلة. وذلك بعد أن ملوا من الوقوف على سلم نقابة الصحفيين.. حيث صرخوا ولم يسمع لهم أحد إلا هؤلاء الذين ذهبوا ليسجلوا موقفًا عابرًا.. وهؤلاء الذين يريدون الحصول على كلمتين من هنا.. وكلمتين من هناك ليقدموهم إلى صحفهم وقنواتهم الفضائية.
ولمّا لم يجدوا ما يشفي غليلهم، قرروا أن يذهبوا إلى بيتهم (الكنيسة) " فلم يجدوا أي استجابة تُذكر"، وانصرفوا كضيوف غير مرغوبٍ فيهم.. والكاتب يرى في تبريره لذلك أن الكنيسة تعرف أنها مسؤولة على الأقل روحيًا وعن الأهالي والمكلومين فقد ظهرت تخريجة لاهوتية تقول كما رددها رجال الكنيسة: "إن الاستشهاد لا مفر منه.. وبعد ذلك هو مفيد لكيان الكنيسة".. هزة عنيفة يترتب عليها أن تسقط بعض أوراقها الضعيفة .وإن كانت هذه خسارة.. لكنّها بالنسبة للشجرة فائدة ومكسب".
ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل زاد الطين بَلّة عندما قالوا: " إن الموت من أجل الله والوطن شهوة وإكليل عظيم" .
والحقيقة أن ذلك يجرنا إلى سؤال استنكاري هام فحواه من قال للكهنة الورعين إن التُعساء الذين تم ذبحهم في "سرت" واختلطت دماؤهم بموج البحر قد استشهدوا في سبيل الله والوطن؟!.. إنّهم لم يعبروا الحدود للدفاع عن المسيحية في مواجهة الوثنية أو للتبشير بها شأنهم في ذلك شأن تلاميذ المسيح من الحواريين.. أو مثل القائد الروماني العظيم "مار جرجس"، الذي رفض أن يتم تعذيبهم، وانضم إليهم، فكان جزاؤه القتل على يد قواده.
كما أن ليبيا ليست وطنهم الذي تعرض مثلا لاحتلال من أجنبي فانضموا إلى أفراد جيشه فقتلوا دفاعًا عن ترابه.. إنهم أُجَراءُ مثل"الغرابوة" زمان.. وهم عمال الترحيلة الفقراء الذين يُعبأون كالعبيد في مركبات العبيد، مُرتحلين إلى بلادٍ أخرى بعيدة ليعملوا بتنقية الدودة، ويأكلون دودًا ومِشًا وينامون في حظائر حيوانات .
خرج هؤلاء العمال والبسطاء من قراهم من "المنيا "، وبالذات من قرية " العور" ( 13 ألف نسمة)، أغلبهم من المسيحيين.. إنهم أولاد الفقر الذين اضطر شبابهم إلى الهجرة إلى ليبيا بحثًا عن عمل يقيهم شر العوز والجوع .. لقد فروا من جحيم الفقر والبطالة.. وتركوا أسرهم بلا عائل ولا مورد، فالرقعة الزراعية ضيقة والخدمات الحكومية تكاد تكون معدومة والاحتياج الشديد أجبرهم على ترك أسرهم، ربما يجدون لقمة ولو يابسة افتقروا إليها في بلدهم، ورحلوا إلى بلد يحكمه الفوضى والإرهاب، فوقعوا في براثن العصابات الإرهابية، ونالوا الشهادة تاركين أرامل ثكلى وأطفال يتامى.
المؤسف والمؤلم في نفس الوقت، أن بعضا من أصحاب الياقات المنشاة والجلود السميكة من المسؤولين ومرتزقة الفضائيات وأرزقية التحليل السياسي والاستراتيجي يلقون تَبِعة المأساة على الضحايا أنفسهم.. ويلجؤون إلى نفس التبرير السخيف وغير الإنساني مع كل أزمة وكل كارثة تُصادفنا، حيث يبرز هنا السؤال الجوهري الذي يطرحه الجهابذة الذين يتساءلون في دهشة واستنكار: ما الذي جعلهم يسافرون؟!.. لماذا لم يبقوا في بلدهم؟!.. أليس من خرج من داره اتقل مقداره؟ !
ألا يذكرنا ذلك حينما تحول قطار الصعيد في عهد مبارك إلى فرن حريق يجرى على الأرض يحمل رؤوسًا مشتعلة مهرولة منصهرة ودخان أسود يأكل الوجوه.. ويلتهم الأجساد.. لقد رأوا وقتها أن الركاب- لا ريب- مسؤولون وهم في النهاية ضحايا جرائرهم.. ألم يشعلوا المواقد ليشربوا الشاي الأسود؟!.. ليدفعوا إذًا ثمن تسيبهم واستهتارهم .
أما ضحايا قطار"البدرشين"، في عهد الإخوان، التسعة عشر قتيلا فقد ألقوا في جوال يضم أشلاؤهم هم ضحايا الحادث، وهم أيضا المسؤولون عنه.. من خلال رمز يمثلهم.. عامل مزلقان.. عامل بلوك.. عامل صيانة.. سائق.
أمّا في فاجعة الاستاد فلا ريب أن الآباء والأمهات هم السبب لأنهم تركوا أبناءهم بلا رقابة.. وسمحوا لهم بالذهاب إلى التهلكة .