التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 12:04 ص , بتوقيت القاهرة

فيديو| مولد الحسين.. رحلة في العالم الموازي

"المولد.. دنيا مصغرة" أطلقها الصوفي الأربعيني، علي قاسم، بجلباب وعمامة تسمح بتسلل جزء من شعره الرمادي، قبل أن يصطحبنا داخل ثنايا العالم الملون، وسط الجموع البشرية التي كانت تخلف بالكاد متسعا بسيطا لرؤية الأرض، ليصحبنا إلى العالم الموازي في احتفالات مولد الإمام الحسين.

ممر ضيق تصطف على جوانبه فرشات تحمل البريق من أرخص إلى أغلى صوره، حتى مدخل السيدات بالمسجد، الذي يوازيه قهوة برهان، مرورا بنفق تحت الأرض، وزحام، ومقاهٍ شهيرة ومغمورة، ولافتات تشير إلى موعد إلقاء الشيخ التهامي، وحلة العيد المضيئة متعددة الألوان التي تلتف حول مسجد الإمام الحسين.

وبين أناس يلتقطون أنفاسهم على الأرصفة، وآخرون يهمسون في أذنك "مافيش نفحة؟!"، وعرض مغرٍ من بائع قبعات مكتوب عليها "حبيبي يا رسول الله"، وآخر يحمل على رأسه "قفص عيش" يريد أن يوزعه عني صدقة.

أبو نبوت

من هنا بدأت رحلة التيه في الممرات الضيقة التي يتخللها أصوات تلاوة القرآن الكريم تتعانق مع موسيقى الإنشاد الديني، في "نصبات" متفرقة لكل منها طقوس خاصة.. انتهت بشقة في الطابق الأول ببناية قديمة في أحد أزقة حي الحسين، تعرف بـ"خدمة أبو نبوت"، التي تقسمت إلى حجرات صغيرة معادية للكراسي والمصنوعات الخشبية، لا تحتوى سوى على المقومات الأساسية للحياة: سجاجيد وحصر قديمة، ومجموعة من الأغطية والمساند الصغيرة، التي تستخدم في الليل كوسادة للنوم.

"الخدمة مجلس علم ولقمة عيش" يقول الشيخ علي قاسم، مفسرا ببساطة ما الذي نراه، ثم يتابع "الخدمة هي أقرب مكان للمولد أو لصاحب المقام، الناس هنا بتيجي تلاقي رقدتها، وأكلها وشربها وحاجات تستفيد منها، ولو محتاج مساعدة بيجي يلاقيها وسط أخواته وحبايبه".

الخدمة محبة

وفي إحدى حجرات الخدمة يجلس مجموعة من الرجال على الأرض، بينهم شاب صعيدي، يبرر مجيئه قائلا "جايين علشان نحتفل بمولد سيدنا الحسين، ونقابل أخواتنا وأحبابنا، دي حاجة متعودين عليها من ساعة ما وعيت على الدنيا".

وعن سر حرصه على التواجد كل عام، يقول "أبهاتنا هما إللي علمونا الحاجة دي، اتعلمنا الخدمة وحبينا الناس، واتعلقنا باسيادنا آل البيت، ويارب كل مولد نقدر نيجي ونتنفح ونحضر الحضرة ونزور المقام وبس"، فدائما ما يقصد صلاح "خدمة أبو نبوت" الذي يقيمه ابنه الشيخ محمد كامتداد له واصفا إياه: "ده الشيخ بتاعنا إللي بنيجي عليه".

وأكمل الشيخ طلبة مصطفى "أكتر حاجة بنحبها هنا أسيادنا" ليبرر أسباب شد رحاله من أسيوط أسبوع كامل ليصلي في رحاب مسجد الحسين ويدخل إلى ضريحه ويدرك مجالس الذكر والحضرة.

لقمة عيش

تنوعت الممارسات بين حجرة وأخرى، فجلس مجموعة من الرجال يتسامرون مع تبادل أعواد السجائر، ومنهم من كانت "الشيشية" أهم أبطال جلستهم، ومنهم من التفوا حول "صينية" طعام كبيرة تحمل الخبز واللحم وأطباق الملوخية"، حين هممنا بتصويرهم قالوا "اتفضلي معانا" فنجيبهم "سبقتكم"، بعد أن أكد لنا الشيخ "محمد أبو نبوت" أن من يدخل الخدمة يجب أن ينول نصيبه من "النفحة".

يطلق الرجل الصعيدي بلهجة عفوية مازحة "إحنا هنا من يوم الجمعة، وفي ناس من يوم الخميس"، ويسترسل في أسباب مجيئه قائلا: "بنيجي هنا ناكل ونشرب وننتقل من الخدمة دي للخدمة دي، وصلي بينا عالنبي"، وبألفاظ مداعبة يضيف الستيني النحيل "معاكي نفحة هاتيها، لو معاكي 100 ولا 200 جنيه في جيبيك.. إدهوملي وأنا أقرالك 150 فاتحة"، فتهتز جدران الغرفة من قهقهة الرجال حوله.

إلا أن مزاحه تبدل إلى ملامح جدية، حين تحدث عن مسقط رأسه أسيوط، التي لا يشد الرحال منها إلا في الموالد، وسرعان ما يعود إلى فكاهته، مفسرا "الموالد إللي فيها لحمة وطبيخ.. أنا لا جاي أشتري بيت ولا أبيع بيت".

شيخ المطبخ

"تعالي هنا.. خدي كوباية ينسون.. دي شفا ونفحة"، صوت عريض منبعث من حجرة صغيرة تعد المطبخ، متخمة بالطناجر العملاقة والأكواب وصواني العشاء وكسرات الخبز الجافة، المتناثرة حول عدد من الرجال يتوسطهم "كبير المطبخ"، المسؤول عن "الخدمة" منذ سنوات متوارث إياها عن والده وجده، وورثها لابنه أحمد، الشاب العشريني الضئيل الذي وقف بجلباب أبيض ومنشفة تعلو كتفه يطهو الطعام، وينوي أن يورث الخدمة لحفيده الذي لم يتعدى خمس سنوات.

وقبل أن نغادر، التقينا الشيخ محمد أبوالنبوت، الذي كان قد انتهى من ضيافته للعميد صلاح، الذي اعتاد أن يتردد على خدمته، وأكد أنه يقيم "الخدمة" في حب السيد الحسين شيخ شباب الجنة، التي يقدمها لكل البشرية، مفسرا "للمسكين، للفقير للعاصي، للولي، لأي حد.. فيها ناس بتيجي تاكل عيش، وفي ناس بتتنفح روحانيا قبل أن تتنفح ماديا".

المجذوب

إلا أن هناك من قطع الحديث بصرخته المدوية، التي أعقبها بابتسامة عفوية برزت ظلام أسنانه الأمامية غير موجودة، وتبعها بحركات غير مفهومة، فسرعان ما يفسر الشيخ أبو نبوت الموقف، قائلا: "هذا مجذوب"، فاقتربت منه كاميرا "دوت مصر" بحذر وحاولنا محاورته، إلا أنه أجاب على جميع الأسئلة بـ"ليه"، عدا اسمه.. حسين.

خدمة السيدات

وفي رحلة أخرى وسط متاجر الحسين، رافقنا الشيخ علي إلى مقر خدمة السيدات، التي لم تختلف في هيئتها عن الخدمة السابقة رغم إقامتها داخل أحد الفنادق، إلا أنه منعت داخلها التصوير من أجل حرية النساء، وهناك التقينا بالسيدة الثلاثينية سناء، جالسة بعباءة سوداء على أحد المساند، التي قصدتها بعد أن غادرت "طنطا" مثلما تغادرها كل مولد على خطى والدتها، قائلة: "مقدرش أكلمك عن التصوف أو حب آل البيت.. ولا أقولك أنا بعمل كدة ليه.. لازم تعيشيه بنفسك علشان تعرفي".

أصول الخدمة

وعن أصول الخدمة، حدثنا أحد كبار شيوخ الصوفية، رافضا ذكر اسمه، قائلا: "الخدمة لها أصل شرعي، فأحب الأعمال عند الرسول إطعام الطعام، فهذا المشهد عند الصوفية هو أحد مشاهد قول الحق".

وحصر المحب لآل البيت أصول الخدمة في ثلاثة أسس هي "إطعام الطعام، ومجالس العلم، ومجالس الذكر" بالترتيب، لأن الإنسان لا يستطيع استيعاب مجالس العلم والذكر وهو جائع، على حد قوله، ولأن مجالس العلم تكون محاطة بالملائكة، ناسبا ذلك إلى القرآن والسنة.