التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 01:23 م , بتوقيت القاهرة

بحر من الدم.. حرفيا

كم تأملنا صورة البحر الليبي المصبوغ بلون الدماء.. نعم، لم يكن البحر أزرق، بل اصطبغ بدماء الضحايا الأقباط المصريين الـ21، فيما كان انكسار ضوء الشمس على الماء يُضفي مزيدا من اللمعان على الدم المُراق ظلما.


ليست المرة الأولى في التاريخ، التي يختلط فيها الماء بالدماء، لكنّها حتما المرة الأولى التي يكون فيها ذلك الامتزاج خيالا شيطانيا مقصودا ومدروسا.


لماذا اختارت داعش أن يكون الإعدام على الشاطئ؟


لعل الانجراف وراء التحليل يعني الوقوع في دائرة ردود الأفعال التي يريدها "داعش"، فلنتوقف عن ذلك، لكن إن تخطينا مسألة تحليل البعد المشهدي للجريمة، فكيف نتخطى تلك السرعة في تجاوز المجزرة؟ أعني تجاوزنا لها كأفراد.


لقد كانت ردود أفعالنا حيال الإعدام سريعة وغاضبة وحزينة لكنّها- بصراحة- لم تصمد طويلا، وسرعان ما بهت الاهتمام. لعلها الغريزة البشرية تلك التي تدفعنا للتأقلم مع الموت العنيف هذا، فنحن كأفراد لا نملك سوى الشعور بالخوف الممزوج بالانبهار، مواصلين طرح ذلك السؤال الساذج، كيف ننتزع ما بقي من أرواحنا من هذه العبثية الكلية التي نعيشها؟


يدرك العقل السينمائي الداعشي أننا لن نقاوم طويلا تلك الرغبة المضطربة في مشاهدة أفلام القتل أو التلصص على بعضها، فداعش يجيد استدراجنا إلى صورتها الدموية. والتنديد والغضب لا يعفينا من مسؤولية المشاهدة، فتلك الأفلام تثير فينا قدرا من الإعجاب ممزوجا بالرعب. لكن لعل الانغماس في تحليل دموية التنظيم وقوة صورته هو تماما ما يريده، وإلا فما الإضافة الجرمية لمشهدية قتل أفراد أبرياء عُزل أمام شاطئ البحر، والتهديد بعبور الماء، الذي امتزج بالدم، والسيطرة على العالم.


يميل البعض للتخفيف من وطأة ما ترتكبه داعش فعلا وصورة، بالقول إن هناك جرائم أفظع ترتكبها أنظمة ودول لكنها بلا صورة أو أن صورتها ضعيفة باهتة لا تثير فينا ما تثيره صور داعش.


 يكثر أصحاب هذه الحجة من لومنا حيال تفاعلنا المذهول بما يرتكبه مجانين هذا التنظيم، ناسبين إلينا ضعفا في الحساسية حيال جرائم عديدة فظيعة مماثلة ترتكبها أنظمة وتودي بأعداد ضحايا أكبر مما يوقعه قتلة داعش.


جرت مقارنة التفاعل الضعيف مع مجازر النظام السوري ضد "دوما" قبل أسبوعين، والتي أوقعت أكثر من 130 قتيلا مع تلك الاندفاعة الغاضبة حيال فيديو إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا.


لكن في الحقيقة فإن محاولة تخفيف جرائم داعش بالقول إن هناك جرائم أكبر، ليس سوى نموذج عن صعود العنف في المجتمع العربي وتحوله إلى أمر عادي. فجرائم النظام السوري أو أي نظام آخر لا تمحوها جرائم داعش حتما، لكن لا يجوز استخدام تلك الوقائع للتهوين مما ترتكبه داعش.


فالخوف والألم لا يخفف منهما أن هناك جرائم أخرى تقع، ومن الطبيعي أن نجد فيما يفعله داعش فظاعة مهولة من دون أن يعني ذلك أننا نستهين بآلام أخرى، إذ مهما تعددت أساليب القتل وصورته وموقعه فهو سيبقى قتلا.


يبدو أن دورة حياتنا باتت أسيرة الصورة التي يلقي بها داعش أمامنا، فنحن ننهمك بما هو متاح من حياة شخصية ليست خالصة نهارا، أما ليلا فبتنا نترقب فيديوهات القتل والإعدامات الهوليوودية الداعشية. نصرخ غاضبين حزانى عبر "فايسبوك" و"تويتر"، نتلو صلاة سريعة وننام نحلم بموت رحيم وجنة لا ندري إن كانت تنتظرنا.


داعش يتوق إلى جمهور ينبهر بالدم، وبدون جمهور مندهش وخائف لا تكتمل حلقة إجرامه. ونحن باستمرار تداولنا لهذه الفيديوهات وبثها والتعبير عن خوفنا منها نقدم لداعش ما يصبو إليه. فالشيطان ليصبح مكتملا يحتاج إلى من يخافه ويعتقد بوجوده..فلنتوقف عن مد داعش بهذا الخوف.