التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:20 م , بتوقيت القاهرة

"فاطمة ناعوت" وحرية التفكير والتعبير

عندما كتب المفكر الفرنسي "جان جاك روسو" كتاباً تحت عنوان "العقد الاجتماعي"، اختلف معه المفكر الفرنسي "فولتير" اختلافاً بيّناً ولم تعجبه بعض الآراء ومع ذلك قال له: "إني أختلف معك في كل كلمة تقولها، ولكنني على أتم استعداد أن أضحي بحياتي كلها حتى تملك الحرية وتقول ما تريد"!! 


هذا ما قاله فولتير لروسو منذ قرون خلت، فعلى الرغم من اختلافه الشديد معه، إلا أنه لم يهاجمه، ولم يحاول أن يقصف قلمه، أو يمنع كتابه، ولم يُجبره على التراجع أو الاعتذار عمّا كتب، ولم يقدم فيه بلاغاً.


تذكرت ما قاله فولتير عندما قرأت عن محاكمة الأديبة والكاتبة الصحفية المتميزة الأستاذة "فاطمة ناعوت" الأربعاء الماضي 28 يناير 2015؛ بسبب البلاغ الذي تقدّم به ضدها أحد المحامين للنائب العام، يُطالب بالتحقيق معها بسبب تدوينة لها عبر صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، تحت عنوان "كل مذبحة وأنتم بخير" وعبرت ناعوت في هذه التدوينة عن رفضها لذبح الحيوانات في عيد الأضحى، وقد أحال النائب العام البلاغ إلى محكمة الجنح للمحاكمة بتهمة ازدراء الأديان.


إن "فاطمة ناعوت" كإنسانة وكاتبة وأديبة، لها ما لها وعليها ماعليها، ومن حق أي أحد أن يختلف معها ومع آرائها، ولكن الرأي لا يُواجه إلا بالرأي، والحُجة لا تُقارع إلا بالحجة، والفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، أمّا أن يُواجه الفكر والرأي ببلاغ بتهمة ازدراء الأديان، فهذا ما لا يمكن قبوله، وكما قالت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في بيان لها "إن البلاغ المقدم ضد فاطمة ناعوت هو عودة لنظام "الحسبة"، والذي سبق، وتم تعديله طبقاً للمادة الثالثة من قانون المرافعات لانتفاء الصفة والمصلحة لمقدم هذا البلاغ. 


كما يُعتبر هذا البلاغ بمثابة إساءة للحق في التقاضي بغية ترويع المواطنين، ومنعهم من ممارسة حقوقهم الأساسية، ومن بينها الحق في حرية الرأي والتعبير التي نص عليها الدستور المصري في المادة (65) والتي تنص على أن "حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر".


قال يوسف إدريس ذات مرة: "إن الحرية المتاحة في العالم العربي كله، لا تكفي كاتباً واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل، بعيداً عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة، الاستبداد السياسي، والتصلب الفكري، والجمود الاجتماعي، والتعصب الديني"، وعندما نُقارن ما كان يحدث في زمن يوسف إدريس وما يحدث اليوم، نلاحظ قدراً متزايداً من الوطأة القمعية لأشكال الرقابة، التي تؤثر في النهاية تأثيراً سلبياً على حرية الفكر والإبداع، ومن المؤسف أن تتخذ عمليات تقييد حرية الفكر والإبداع أشكالاً مختلفة في المجتمعات العربية، وهي أشكال تندرج تحت ما يطلق عليه مرة اسم المصلحة الوطنية، وأخرى اسم الدين، أو الأخلاق أو المجتمع.


وفي يقيني أنه ليس من حق أحدٍ أن يعتبر نفسه وصياً على فكر أو أخلاق أي أحد، والأديان الراسخة أقوى من أن تزعزعها تدوينة، وأثبت من أن يزعزعها رأي كاتب أو صحفي، وأرسخ من أن يزعزعها فيلم أو رسم كاريكاتيري، هذا فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من أحدٍ أن يدافع عنه وعن الأديان بالوكالة، فهو سبحانه قوي قدير، يستطيع أن يدافع عن نفسه وعما أنزله.


 إن ماحدث لـ "فاطمة ناعوت" يعتبر مؤشراً على تدهور نوعي جديد لحريات الرأي والتعبير، وينذر بموجة جديدة من موجات التكفير، وأي حديث عن ريادة مصر لا معنى له في ظل وجود عقلية إرهاب المبدعين وتخويف المثقفين، ولا يُمكن أن تتحقق الثورة الدينية التي طالب بها الرئيس عبد الفتاح السيسي في ظل هذا الإرهاب المعنوي الذي يتعرض له من يجرؤ على التفكير الحر، فمصر لن تتقدم إلى الأمام ولن تكون في مصاف الدول المتقدمة في ظل ترويع المبدعين وتخويف المثقفين وإرهابهم بوعيد العقاب وسوء المآب.


إن كرامة مصرنا الغالية أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والفكرية والإبداعية، لقد فقدت مصر ريادتها ولم تعد لها مكانتها الراقية بين الأمم، وما ذاك إلا لأن التعصب ساد بدلاً من التسامح، ولأن العنف غدا بديلاً للحوار، إن حضارة مصر آخذة في الذبول وما هذا إلا لأن التنوير قد انتكست وقدته وشحب الضوء في منارته، لقد أصبحت مصر في ذيل الأمم عندما استُبدل النقل بالعقل، ولغة القمع بلغة الحوار، وأوهام التخلف بأحلام التقدم، وقيود العبودية بانطلاقة الحرية، فزاد التكفير الديني، والتخوين الوطني، وفي ظل هذا المناخ المعادي للحريات، لا يجوز للمثقف الحقيقي أن يجلس في دعة ويؤثر السلامة منتظراً من الحكومة أن تعد قوانين لمواكبة الحريات في العالم المتقدم، أو أن ينتظر أن يفارق الجمهور تعصبه الأعمى الذي اعتاد عليه.


إن الحرية تُنتزع انتزاعاً لأنها ليست هبة من سُلطة أو جماعة، وإنما هي حق لا يمكن اكتسابه إلا بممارسته، فلا إصلاح دون حرية فكرية وإبداعية، وتقدم الأمم مقترن دائماً بأفق الحرية المتسع للمفكرين والمبدعين، وبدون فتح نوافذ الحرية على مصراعيها فقولوا على مصرنا السلام !!