التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:55 ص , بتوقيت القاهرة

التراث بين المقدس والمدنس (1)

لا يخفى على المتأمل أن كثيرًا من القضايا الكبرى التي مثلت نقاط تماس واختناق في واقع العمل الإسلامي المعاصر، وأدت إلى قصور المراجعات وإلى الاختلافات وكثير من التهارج والتدافع كانت بسبب نقولات كثيرة من كتب التراث وتفسيرها وفق ما تراه فصائل الجماعات الإسلامية المتعددة وبالذات السلفية منها.


لم يكن التدافع مرده إلى تنازع فقط حول تحقيق المناط، وإثبات بعض الأمور العلمية التى أدى خفاؤها وتراكم الغبش حولها إلى الاختلاف في التوصيف، إنما كان السبب الأهم هو الأصول العلمية الضابطة لهذه القضايا، والتي كان التراث هو وحده فقط الأصل الثابت الذي وصل إلى حد التقديس واعتباره فقط هو الصواب وغيره الخطأ، فما هو "المقدس" و"المندس" في التراث؟


إن التراث هو النتاج الفكري والوجداني السابق الذي خلفته لنا الأجيال المتعاقبة منذ عهد الدولة الإسلامية الأولى إلى عصور الإسلام الزاهية، من أقوال ومرويات ومراجع وكتب، وهو الذي أنتجه العقل المسلم لشرح الإسلام والدفاع عنه في عصوره الأولى، وهو في حقيقة الأمر لا يعدو كونه نقولات ونصوص للسلوك الإدراكي للسلف والذي خضع لتفاعل مستمر في علاقة ثابتة مع الواقع الذي دائمًا ما يخلق نماذج متعددة من التصورات.


التراث لدى الجماعات الإسلامية كانت له علاقة مطلقة ثابتة بها، مما أنتج ظاهرة سلفية كبيرة، حتى أن تيارًا عريضًا منها يلقب بالمدارس السلفية، وينبع هذا الاهتمام من كونه يمثل مرحلة تاريخية مهمة كانت أمة الإسلام فيها هي الغالبة.


ويعمق التراث علاقة الانتماء الدينى للجماعات السلفية، أو بعبارة أخرى يوسع مفهوم الولاء الذي ينبع من أننا سنجد الحلول لكل مشاكلنا به، لأنه لن يصلح آخر الآمة إلى بما صلح أولها، وأخيراً لأنه يصلح لأن يكون أساساً لخلق بناءٍ فكرىٍ وإطارٍ للتعامل مع مجموعة المتغيرات بصورة جديدة، هي في حد ذاتها صورة زاهية وواضحة لأنها ملتزمة بأقوال السلف الصالح الذين بلا شك لديهم قبول جماهيري.


كان من نتاج هذه الظاهرة السلفية التراثية :
*الاهتمام بالعلم والدراسة وبالأخص فى الفقه والحديث وبين أهل الفقه وأهل الحديث، حتى خرجت أفكار نصوصية لا تعنى باكتشاف خبرات السلف ودلالتها، بل عنيت بجمع الأدلة ومذاكرتها فقط.


*اعتبار أن شرعية وجود الحركة هي مفهوم الاتصال بالناس ونشر الدعوة وأن شرعية السلطة الحاكمة كذلك ستستمد من نشرها للإسلام وممارستها لذلك وإلا اعتبرت سلطة غير شرعية مقصرة فى حق الدين.


*النظرة إلى الحياة الدنيوية بأنها معاناة، وأن الإنسان سيدخل فى امتحان عسير لإثبات قدرته على أنه، مؤمن وعلى هذا النوع فإن ممارسة الحكم نوع من الاختبار ومحنة والخضوع للحاكم الظالم محنة كذلك، وبما أن السلطة ضرورة وحقوق، ورغم أنها تنبع من مفهوم الطاعة إلا أنه لا طاعة لما هو مخالف للتراث، وهذا ما يفسر حالة الاختناق التى حدثت بين الجماعات والأنظمة.


*التيارات السلفية لا تقبل إلا أن تكون مؤسسة على سيادة مبدأ الأخلاق وقيم ومبادئ السلف حتى فى النموذج السياسى للدولة، فتنظر له الحركة إلى أن ما ينطبق على المواطن ينطبق على الحاكم.


*غرس مفهوم الاستعلاء الديني بين الجماعات وبعضها البعض وبين الجماعات وغيرها من الناس باعتبار أن مقدار الاتصال بالتراث هو المقدار الذى يحدد أقرب الجماعات إلى الحق.


على هذا فقد درجت التقاليد على أن تنظر إلى التراث بأنه مجموعة من النصوص المتداولة التى تركها السلف ولكن هذا التراث كان يجب أن يفهم على أنه مرادف للتصور ونموذج من نماذج الوجود والتطور الإنساني، كما يقول الدكتور حامد عبدالله ربيع في تعليقه على كتاب سلوك المالك فى تدبير الممالك "التراث حقيقة أكثر تعقيداً من أن نتصور أنه يبدأ وينتهى عند مجموعة من أمهات الفكر وكذلك فإن إحياء التراث لا يعنى مجرد بعض أمهات الفلسفة والفقه".


الجماعات الإسلامية بهذا الشكل السابق، جعلت إحياء التراث الإسلامى شيء هام، وركزت عليه من خلال الفقه السياسى أو الوظيفة السياسية، وألغت عنصر الزمان، وكان من المفترض أن تسعى لإدارة التراث فى إطار أكثر اتساعًا، أو بمعنى آخر، في إطار الحركة الجماعية الإنسانية، حيث يعبر النص عن التقاء بين ماض وحاضر ومستقبل.


التراث لدى السلفيين نقيض التجديد
لقد كانت التشكيلات الإسلامية على اختلاف مشاربها تتبنى مذاهب وأفكار تتخذ لها من النصوص دليلاً وملاذاً، وهذا هو ما عبر عنه علماؤنا أن تعتقد ثم تستدل مع أن المنهج السليم أن تستدل ثم تعتقد.


لم يكن أي نص هو الكفيل بأن يثبت صواب الفكرة بل التراث وحده ونقولات المرويات القيمة التي دائمًا ما تكون مقنعة لشباب العمل الإسلامى وهذه هى السنة التى سارت عليها أغلب الجماعات، على هذا اعتبر بعض المتشددين الإسلاميين أن التجديد والمجددين مارقين عن الدين، وان أئمة التراث وحدهم هم المعصومين، وكم أهين كثير من العلماء المعاصرين وضرب بكلامهم عرض الحائط، واعتبرت كتاباتهم ناقضًا لعرى الدين، رغم أنها كانت السد المنيع الذى يدافع عن الإسلام.


وقد قامت التشكيلات السلفية بطرح بعض القضايا التى عفا عليها الزمن، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قضايا الخلافات بين الفرق المختلفة كالمعتزلة والقدرية والأشاعرة.. ألخ، وافتعال المعارك فى مسائل وسع الخلاف فيها الأمة، كمسألة النقاب، وعمل المرأة، والموسيقى.. إلخ، بل وتعدى الطرح إلى فرض هذه القضايا بالإكراه.


ووصل التقديس للتراث إلى حد الرجوع إليه من كل المستجدات العصرية والحقائق العلمية واعتباره وحده الصواب، كالذين أنكروا المجموعة الشمسية، أو أنكروا صعود الإنسان للقمر.


لهذه الأسباب أصبح التراث هو العائق الذى وقف أمام عملية التصحيح، وهو المنبع الذي برر أعمالاً كثيرة مثل الأعمال القتالية، فكم رأينا من يقيس الحكم في واقعه المُعاش على فتوى صادرة من فقيه منذ مئات السنين، وكم رأينا من يحيلك إلى كتاب فقهي من القرون الأولى ليدلل على صحة ما صنع، وهذا بلا شك يعبر عن خلل فى التعامل مع التراث، لأن أقوال الفقهاء تعبر عن فهمهم لنصوص الشريعة، وهناك فارق بين قدسية النص، واحتمالية خطأ فهم الفقيه للنص، وهو ما يرتب نتيجة هامة، وهى أن أقوال الفقهاء مع عظيم مكانتهم يمكن أن تحتمل الخطأ فى بعضها، وفهم النصوص، ومقاصد الشريعة لا يصح تنزيلها على الواقع إلا ممن يملك أهلية الفتوى الشرعية.


 والعجيب أن الحركة الإسلامية بها قلة ممن وصلت إلى هذه المرتبة، التي تستطيع النظر فى مدى توفر شروط وأسباب وانتفاء موانع هذا الحكم فى الواقع، وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، بالإضافة إلى أن أكثر المسائل اليوم تحتاج إلى اجتهاد معاصر، لا يسعف فيها الرجوع للتراث الفقهي فى القرون الأولى.. وفي المقال القادم نتابع الحديث عن أزمة التراث وكيفية تجديده.