التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:13 ص , بتوقيت القاهرة

شبح الهولوكوست لا يزال يطارد العالم

مصطلح معاداة السامية يثير لغطا في الدول العربية. فالعرب أيضا، حسب التفسير التوراتي للأنساب، ساميون، أبناء سام بن نوح، مثل اليهود.
                
لكن الحقيقة أن معاداة السامية كمصطلح لا يعني أكثر من صياغة أخرى لعبارة "كاره لليهود"، وبما أن اليهود هم الساميون الذين عرفتهم أوروبا في ذلك الوقت، فقد استخدم تعبير معاداة السامية كمرادف لتعبير "كراهية اليهود" كجماعة عرقية دينية.


لكن لماذا نشأ المصطلح، وفي أية ظروف؟


التحولات الصناعية الكبرى تواكبها تغيرات في أنشطة وتوزيع السكان. الآلة تجعل بعض المهن عديمة الأهمية، وبعض المهارات التي كانت مطلوبة تصير بلا قيمة. أصحاب هذه المهن وتلك المهارات يجدون أنفسهم في صراع من أجل التأقلم مع الوضع الجديد، تضربهم البطالة، وتسوء أحوالهم حين ينتقلون إلى مهن جديدة فقدوا فيها عنصر تميزهم.


توزيع السكان أيضا يختلف. إذ يرحل هؤلاء العمال الذين فقدوا مهنا تربوا عليها وأجادوها من مناطقهم الريفية - غالبا - إلى المناطق الصناعية، على هوامش المدن، ليعملوا هناك في مهن يتساوون فيها مع غيرهم. عمال وحرفيون بأجور زهيدة، وكثير منهم محبطون.


هذه التركيبة تشكل أحزمة فقر ونقمة، وتكالب على الفرص. وبينها تنشأ إحدى الآليات "الطبيعية": إن كانت الفرص قليلة فلنحجز "آخرين" عنها، حتى لا ينافسونا عليها.


الآخرون - عادة - أبناء عرق مختلف، ديانة مختلفة، مهاجرون. كل هذه الصفات، في حالة ألمانيا ودول أوروبية أخرى، توفرت في اليهود. ووجدت في النصوص الدينية ما يعزز الكراهية، ويبرر العنصرية.


على أبواب الجدران كتب أوروبيون لليهود رسائل من عينة "ارجعوا إلى وطنكم"، في مجالس التشريع صدرت قوانين تجعل الاضطهاد ممارسة تتبناها الدولة، بعض هذه الإجراءات تحرم اليهود من العناية الصحية، وبعضها يحرمهم من وظائف معينة، وبعضها يجبرهم على الانتقال من أحياء معينة، وبعضها يحدد ثرواتهم أو يصادرها. سلسلة طويلة من القوانين في جميع مناحي الحياة.


الدعاية والإجراءات وحماية الدولة للاضطهاد تراكم ليصل ذروته أثناء الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا، حيث المحارق النازية، ولكن أيضا في بولندا وفرنسا وبلجيكا وغيرها. حيث تم استهداف اليهود كجماعة عرقية دينية.


لا بد أن نفهم هذا الآن أكثر من أي وقت مضى. لماذا؟


أولا، لأسباب معرفية. المعرفة أكبر محرض على صحة الاختيار. يجب أن نفهم مأساة الشعب اليهودي وحجم ما تعرض له لكي نحدد كيف نتعامل مع المسألة. ليس هذا فقط.


ثانيا، حين نعرف ما يحدث في المجتمعات نتعلم من التجارب. الجاليات اليهودية التي عاشت في أوروبا كانت مسالمة بشكل عام. لكن هذه المسالمة لم تعصمها حين ضاقت الفرص، و"لزم| التضحية بالبعض لكي تنعدل كفة العرض والطلب.


المسلمون الآن يعيشون في أوروبا في ظل أوضاع تشريعية أفضل، تحمي حقوقهم. ما كان هذا ليحدث لولا نضال جماعات عرقية سابقة وتضحياتها، كاليهود والسود والمسافرين الرحل (الغجر). لكن علينا أيضا أن نفهم قصص هؤلاء ومحنهم، لكي تتجنبها الجاليات المسلمة وتتجنب أسبابها، ولتعرف إلى أي مدى يمكن أن يصل الصراع بين مجتمع وبين "الأقليات" فيه.


من الغريب أن أستمع من أشخاص عرب إلى عبارات مثل "هتلر غلطان، بس لو عرفت تاريخ اليهود وعملوا إيه هتفهم عمل كده ليه". هذه مقولة مخبولة، وخصوصا حين تصدر من أناس يمثلون أقلية في أوروبا. حين نقارن مدى العداوة التي يبديها مسلمون يعيشون في دول أوروبية لمجتمعاتهم سنفهم أن اليهود لم يفعلوا "ذرة شيء" تبرر ما حدث لهم في أوروبا، وأن الموضوع جذوره قادمة من عنصرية شعوبية ودينية. المشاعر العنصرية ليست مجرد جمل حض على الكره تكتب في سطر في جريدة، أو تقال في معبد ديني، أو في خطبة جمعة، أو في درس تليفزيوني. المشاعر العنصرية ليست جرما تافها. المشاعر العنصرية تنمو لتصير السبب في أسوأ مذابح تمت في التاريخ.


فلنكره العنصرية بما تستحق. لنكره "كراهيتنا" للآخرين.