التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 07:09 ص , بتوقيت القاهرة

الأحزاب الدينية.. وإشكالية الثيوقراطية والديمقراطية!

على الرغم من أن المادة 74 من الدستور المصري نصت على أن "للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون، ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي، أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني"، إلا أنه حتى الآن لا زالت توجد في مصر بعض الأحزاب الدينية، وهذه الأحزاب تستمد شرعيتها من المادة الثانية بالدستور التي تضع ديناً للدولة. وهذه الأحزاب تتبع دين الدولة، وهنا القضية الحقيقية، حيث إن وجود مواد دستورية لها صبغة دينية من شأن هذه المواد أن تهدم كل محاولات بناء الدولة المدنية الحديثة.


 ومن المؤسف أن هذه الأحزاب ينتمي إليها ممن لا يؤمنون بالمواطنة وبالمساواة بين البشر، وأعضاء هذه الأحزاب لا يقفون احترامًا للسلام الجمهوري، ومنهم من يصدرون الفتاوى ويمنعون تهنئة المسيحيين في أعيادهم، بل ومنهم من كفر الرئيس السيسي بسبب زيارته للكاتدرائية لتهنئة المسيحيين في عيد الميلاد الماضي، وأعضاء الأحزاب الدينية يقللون من شأن المرأة، ويكفرون المسيحيين شركاء الوطن، لدرجة أن صرح بعض القيادات في هذه الأحزاب بأن التحالف مع المسيحيين في الانتخابات مثل أكل الميتة.


وعلى الرغم من كل هذا سعت هذه الأحزاب لضم أفراد قلائل من أصحاب المصالح الضيقة ممن يدينون بالمسيحية، ليصبحوا أعضاءً في هذه الأحزاب ومن ثم يكونون بمثابة المحلل الذي ينفي عن هذه الأحزاب طائفيتها وعنصريتها.


وتكمُن المشكلة الأساسيّة للأحزاب الدينيّة، أنها تحاول الجمع ما بين مبدأ "الثيوقراطية" حكم الله، و"الديمقراطية" حكم الشعب، وهنا تظهر مشكلة تناقض قيم الديمقراطيّة مع بعض أحكام الشريعة التي تشكّل تحدياً كبيراً لتلك الأحزاب، فالشرعيّة عند منظّري الأحزاب الدينية في منطقتنا العربية، هي مقتبسة من الشريعة الدينية ومستندة على أساس الشريعة وليس إرادة الشعب، أما إرادة الشعب فتعطي فقط إمكانيّة تفعيل الشرعيّة الحقيقيّة التي هي الشرعيّة الدينيّة، وعليه فإن الديمقراطيّة في ذهن المنتمين للأحزاب الدينية ليست سوى طريق للوصول إلى الحكم والتمسّك به، وبالتالي ليست منهجاً شاملاً للنظام السياسي، ولذلك فإنّ هذه الأحزاب متى صعدت إلى سُدّة الحكم عبر آليات ديموقراطيّة فإنها لن تستطع الالتزام بكلّ قيم وعناصر الديمقراطية، ومن ثم ستضع قيوداً واستثناءات على العمل الديمقراطي، ومن ثم فإن الثيوقراطية ستلتهم الديموقراطية!!


ومن الطريف أنه عندما يطالب عدد كبير من المصريين بتفعيل المادة 74 من الدستور المصري، وإلغاء كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني، يتساءل البعض ويقولون: كيف تُحرِّمون عندنا ما يُحلل الآخرون، ألا توجد أحزاب دينية في دول أوروبا العلمانية؟!!


وحتى لا تختلط الأوراق لا بد أن نُفرق بين السياق الحضاري في الغرب والسياق الحضاري في الشرق، فالديمقراطيّة في الغرب أتت بشكل تدريجي وعلى مدى قرون متتالية من التنظير المعرفي من رواد ومفكّري عصر التنوير وما بعد ذلك، وهذا التنظير رافقه تراكم كبير للتجارب البشريّة.


ويُضاف إلى هذا، أن بعض مبادئ الديمقراطية قد توفرت منذ العصور الوسطى في المجتمعات الأوروبيّة، ومن أهمّها - مقارنة بالشرق الأوسط - الفصل النسبي للسُلطة السياسيّة عن السُلطة الدينيّة في نماذج مختلفة من أنظمة الحكم في أوروبا، إلى أن تم فصل الدين عن أنظمة الحكم بعد حركة الإصلاح الديني التي أدت إلى الثورة العلمية والتكنولوجية.


 وبالتالي فإن "المرجعية الدينية" للأحزاب الدينية في أوروبا لا تزيد فقط عن الالتزام بقيم ومبادئ أخلاقية عليا واضحة وغير مُبهمة؛ مثل الكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة والمسؤولية الاجتماعية والمواطنة الفعالة والأمانة والشفافية، ولا يوجد عند أي من هذه الأحزاب الدينية في أوروبا دعوة لإقامة "دولة مسيحية" محلية أو عالمية، وليس من بين أعضائها من يدعو لتتسيَّد المسيحية على العالمين، كما لا توجد أية مطالبة بجعل "الشريعة المسيحية" فوق الدساتير أو مصدرها، بل إن هذه الأحزاب تقدم برامج ومواقف محددة يُستشَف منها الالتزام بالمبادئ والقيم العليا.


كما أن الأحزاب الدينية في أوروبا ليس من بينهم رجال دين لاهوتيين يتحدثون باسم الإله ويشرحون مبادئ هذه الأحزاب وفقاً لنصوص الدين، هذا فضلاً عن أن قادة هذه الأحزاب لا يُرصعون برامج أحزابهم بأية نصوص دينية أو أية موروثات ثقافية تعود لقرون خلت، كما أنهم لا يحتقرون المرأة ولا يقللون من شأنها ولا يضعون وردة بدلاً من صورتها ولا يمارسون التمييز ضدها، هذا فضلاً عن أنهم لا يفرقون بين الناس حسب معتقداتهم، ولا يطالبون بفرض جزية على البعض منهم، كما أنهم لا يمنعون تهنئة المغايرين دينياً بأعيادهم، ولا يتدخل المنتمون لهذه الأحزاب فيما يأكل أو يشرب أو يلبس خلق الله، كما أنهم لا يحشرون أنوفهم في أمور الحلال والحرام، كما أنهم لا يحاولون فرض قوانين عقابية تُطبق في البلاد تُقطع فيها أوصال ورقاب العباد.


لذلك وكما يقول الأستاذ عادل جندي، إن محاولة البحث عن تشابه بين تلك الأحزاب الدينية في أوروبا والأحزاب الدينية في مصر، هو مثل الزعم برؤيةِ تَشابهٍ بين الماء وحامض الكبريتيك المركز باعتبار كليهما سائلاً، ومن ثم فلا مجال للمقارنة بين الأحزاب الدينية في أوروبا والأحزاب الدينية في بر المحروسة.


وبناء على ما تقدم فإن الأحزاب الدينيّة في مصر التي تنتهج الديمقراطية من أجل تطبيق الثيوقراطية ثم القضاء على الديمقراطية، لن تستطيع أن تندمج في داخل النظام الديمقراطي بشكل كامل بسبب ثنائيّة المبدأ في منظومتها الفكريّة، حيث إنها تريد الجمع ما بين الثيوقراطية والديمقراطية، مبدأ حكم الله وحكم الشعب في طريقة إدارته للحكم، وهذه الثنائية من شأنها أن تؤدّي إلى تقييد الديمقراطيّة ضمن الحدود الدينيّة التي تلتزم بها هذه الأحزاب، فهل لنا من مخرج؟!!