وَكَلَّم الرَّب مُوسَى.. فماذا قال؟ (2)
وتعمُّد الكتاب المقدس مخاطبة المرأة بصفتها "ملعونة" مرجعه الأساسي مسؤوليتها عن غواية آدم وطرده من الجنة، وحثها إياه على تناول الثمرة المُحرمة.
وكعقاب على هذه الخطيئة، كان الطمث والحمل وآلامهما ملازماً لها طيلة حياتها, وكانت هي نفسها قد تحوّلت إلى مجرد كائن "نجس" وجب عزله معظم أيام السنة، كما رأينا في المقال السابق ، وقد أكد لنا "بولس" أن الرب تحرى إيصال رسالته العقابية إلى المرأة بصورة مباشرة حين قال لها: سأضاعف آلامك وأحزانك مضاعفة كبيرة ..وستلدين الأطفال بالآلام وحدها.. وستكون حياتك خاضعة لمشيئة زوجك.
لم يكتفِ الكتاب المقدس باعتماد آلام الحمل والولادة كعقاب إلهي, مضاف إلى "المرض الشهري"، بل قرر أيضاً عزلها إمعاناً في العقوبة، وبعد أن تنتهي فترة العزل، يتوجب على المرأة كي تطهر من نجاستها أن تَأْتِي بِخَرُوفٍ .. وَفَرْخِ حَمَامَةٍ أَوْ يَمَامَةٍ .. فتقدمها إِلَى الْكَاهِنِ.. الذي بدوره سيقف بتلك القرابين أَمَامَ الرَّبِّ وَيُكَفِّرُ عَنْهَا فَتَطْهُرُ.
إذن؛ فبالقربان الذي يقدمه الكاهن وحده تطهر المرأة من نجاستها. وصدق من قال: إذا عُرف السبب بطل العجب!
وللإنصاف، لا بد أن نشيد بتسامح الكتاب المقدس في هذا الموضع بالذات، إذ استثنى الفقيرات من تقديم الخروف كقربان، وعوضا عنه، سمح لهن بتقديم يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. ويؤكد مفسر سفر اللاويين، القمص "تادرس يعقوب"، أن هذا القربان هو ما قدمته العذراء مريم، أم السيد المسيح، بما يعني أن الكتاب المقدس وإن تسامح في قيمة القربان، لا يقبل بغيابه المُطلق، حتى وإن كان الحمل قد حدث بأمر الرب، ليس عن طريق البشر المحملين بالخطيئة، بل عن طريق روح القدس، بل حتى وإن كان الوليد هو ابن الله، السيد المسيح المُخلّص!
جاء في رسالة بطرس: أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن، كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها. وعلى لسان بولس: أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب. لأن الرجل هو رأس المرأة. وفي موضع آخر: كما تخضع الكنيسة للمسيح، كذلك النساء لرجالهن في كل شيء.
وإذا كان الرب، وفقاً للنص، قد أعلن سيادة الرجل على المرأة، كما جاء في سفر التكوين، حين قال: لرجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.. فالنتيجة الحتمية لهذا القول كانت أن يأخذ الرجل نفسه على عاتقه، وهو الذي سبق أن وصفة الرب "بأنه صورته" مهمة التأكد في الخضوع التام تلك. إذ ذاك؛ تحتم عليه أن يتدخل، خلافاً لكل أنواع الذكور الحية، بحسب تعبير الصادق النيهوم، في أدق تفاصيل حياة المرأة، حتى زيها وزينتها.
فعلى لسان بولس يأتي تحديد ما يجب أن تتزين به المرأة إذ يقول :النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ. وعلى لسان بطرس: أَيَّتُهَا النِّسَاءُ...: لاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ.
بيد أن الأمر لم يتوقف عند تدخل الرجل في علاقة المرأة بجسدها وزيها وزينتها، بل تخطى تلك الحدود إلى علاقتها بالرب، الرب شخصياً.
فالمرأة الموصوفة في التوراة بأنها أخت الشيطان، خبيثة القلب، الصخابة الجامحة، أو التي هي شِباك، وقلبها أشراك ويداها قيود، لم يكن لها بحسب تعاليم بولس أن تشارك الرجل مكانته، حتى في تلقي تعاليم الرب في الكنيسة، وفي ذلك يقول: لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. أما عن السبب في هذه التفرقة بين الرجل والمرأة، فعلى لسان بولس أيضاً يأتي التبرير: لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلاً ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ، لكِنَّ الْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ. لذا فالنساء بحسب ما قال، مهمتهن الحصرية أن: يتزوجن ويلدن أولاداً ويدبرن البيوت.
منذ حوالي سبعة عشر قرنا تقريباً، ونحن هنا ننقل عن "جورج طرابيشي" من كتابه "مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام"، كتب الفيلسوف "فرفوريوس" منتقداً زميله "أوريجانس"، الذي انخرط في محاولات توفيقية بين الفلسفة والنص الديني، والفلسفة كانت الاتجاه العلمي والعلماني آنذاك، كتب يقول: إن بعض الناس ممن تعتمل فيهم الرغبة في إيجاد مخرج تفسيري لرداءة الأسفار اليهودية، ولكن بدون القطع معها، يلجؤون إلى تأويلات متهافتة، لا تتفق والنص والمكتوب، وهم بذلك لا يقدمون تفسيراً لما هو غريب، بل تحلية وثناء لمماحكاتهم الخاصة. فما هو مُفصح عنه بمنتهى الوضوح، يخلعون عليه صفة الألغاز المبجلة، ويعلنونه، بكل فخفخة، أحجيات تلفها أسرار خفية.. وبعد أن يُنوموا – بدخان الكبرياء – الحس النقدي للنفس، يدسون تفاسيرهم.
وقد استمر الوضع على ما تركه "فورفوريوس" قرابة أربعة عشر قرنا أخرى، باءت فيها كل المحاولات بالفشل. لاحقاً، ومع بزوغ شمس التنوير الأوروبي، والتي بلغت تحت ضوئها المسيحية الغربية، أي الكاثوليكية، طور الرشد والعقلانية، تخلى المسيحيون، طوعاً، ليس عن التأويلات فحسب، بل عن سلطة النص ذاته، لصالح سلطة الواقع، بعد الاعتراف الصريح بعدم صلاحية ما قد صلح للأسلاف. فاللهم إنا ندعوك بلوغ الرشد.. ولو بعد حين!