في أن نكون "تشارلي إيبدو".. أو لا نكون
"أنا تشارلي إيبدو".. "أنا أحمد" .."أنا غزة" .. "أنا جوبر".. "أنا جبل محسن". وبوسعنا أن نستنسل الـ"أنا" هذه إلى ما لا نهاية، فلا شيء يقسمنا قدر القتل والموت، فهذان شأنان لا زلنا لا نُجمع على إدانتهما المطلقة. يكفي أن نتردد حيال فهمنا إزاء تعريف من الضحية ومن القاتل؟ وما هو سبب القتل كي يقع هذا الارتباك الكبير الذي علقنا فيه وما زلنا نتخبط.
هذا ما حدث يوم الأربعاء الماضي حين انطلق شعار "أنا تشارلي إيبدو" التضامني مع حرية التعبير، فقد استحوذت مجزرة صحافيي "شارلي إيبدو" في باريس على اهتمام لم ينله ضحايا مجازر عديدة أخرى، ما رفع من وتيرة الانتقاد لذلك الشعار ومجابهته بشعارات رديفة أخرى، تبعا لأي ضحية ينحاز صاحب الشعار.
في الحقيقة، يصعب فصل المأساة الفرنسية عن حرائق منطقتنا، التي يبدو أن لهيبها يمتد ليس فقط إلى أوروبا، بل إلى العالم كله. نعم، لقد استفز الاهتمام بضحايا صحيفة "تشارلي إيبدو" شرائح كبيرة، خصوصا أولئك الذين يعيشون مآسى دموية تزهق أرواحا كثيرة كما في سوريا والعراق.
واستفز الشعار أيضا الذين لم يتحملوا فكرة أن السخرية لا توقر أحدا ولا تعترف بمقدس، فأتت هذه الجريمة لتضخم جدلا طويلا خضناه في العقد الماضي حول السخرية من الرموز الدينية خصوصا الإسلامية، فثبت للعالم أن من يسخر من المعتقد الإسلامي سيكون جزاؤه الموت.
فتحت مقتلة "شارلي إيبدو" نقاشا كبيرًا ومتشعبا في الغرب حيال المهاجرين والإسلام والحريات وحتى المسؤولية الغربية حيال ما حدث. الدماء لا تزال ساخنة وكذلك ردود الأفعال عليها، لكن يبدو أن هناك انقساما غربيا خصوصا في دوائر الإعلام حيال كيفية التعامل مع الحساسية الإسلامية تجاه السخرية والمقدسات.. هناك في الغرب من قرر رفع السقف عاليا وإعادة نشر الرسوم التي سبق أن نشرتها "تشارلي ايبدو" على قاعدة أنه يجب عدم المس بالحرية أو الاستسلام لترهيب القتلة.
في المقابل مال قسم آخر إلى التعامل بحذر حيال هذا الأمر، فعمم سياسة تحريرية حذرة تجاه ما يعتبر أنه مقدس.هذا الخوف دفع بمنظمة "مراسلون بلا حدود"، إلى إعادة نشر الرسوم باعتبار أنّه "لا يجب أن نسمح لحرية التعبير أن تضيق تحت تأثير الهجوم البربري الذي تعرضت له شارلي ايبدو".
مقتلة باريس باتت ترتدي لبوسا إسلاميا وتنبئ بصدام أكبر من ذاك الذي شهدناه بعد هجمات سبتمبر 2011.. وبينما يخوض الغرب الجانب الذي يعنيه من النقاش حيال ما يجب أن ينشر وازدواجية معاييره أحيانا، فإن نقاشا مقابلا علينا نحن العرب والمسلمون أن نخوضه حيال ديننا وثقافتنا والعالم..
فالغرب الذي يسخر من المسيحية واليهودية، فعل ذلك بعد قرون من الحروب الدينية، التي أفضت إلى ما سمي بالإصلاح الديني، وهو إصلاح أنجزه المسيحيون أنفسهم وخاضوا في سبيله صراعات فكرية ودموية كبيرة.
ونقاش الإصلاح الديني بات ملحًا أكثر من أي وقت بالنسبة لنا كمسلمين.. فقطع الرقاب والجلد والقتل سواء عبر ما بات واقعًا مراً واسمه "الدولة الإسلامية" أو عبر قوانين رسمية في دول تُمارس ازدواجية فتدين الإرهاب باسم الإسلام فيما تطبق هي قوانين تعسفية وأيضا مستندة إلى الإسلام.
هذا النقاش يعنينا نحن قبل أن يعني الغرب. سماح المجتمعات الغربية بالسخرية من الدين وهو أمر في صلب منطق الحرية لم يحدث بسهولة وتلقائية بل عبر سنوات من المقارعة والصدام.
السخرية حق من حقوق الإنسان وفي صلب الحريات، لكن هذا لن يتحقق قبل أن نخوض معارك تنتظرنا بشأن الإصلاح الديني الذي لا نزال مرتبكين وخائفين منه.
إلى أن يتم ذلك أنا "تشارلي إيبدو".