هل يمكن إقناع الأصولي بأنه على خطأ؟
هذه عملية شبه مستحيلة وعبثية. الأهم من ذلك أنها غير مطلوبة ولا تُمثل جوهر المواجهة مع الأصوليين.
(1)
في اللحظة التي يقتنع بها الأصولي بالفصل بين الدين والدولة، أو بحدود مُعنية لدور الدين في المجال العام، يتوقف عن أن يكون أصولياً أو سلفياً. وعلى ذلك، فإننا لا نتحدث هنا عن إقناع شخص بفكرة مُعينة على أساس أنها تُمثل فكرة أفضل من تلك التي يعتنقها. واقع الأمر أننا نتحدث عن إقناع شخص بأن يتخلى عن "من يكون". إقناعه بأن يكون شخصاً آخر. هنا تكمن الاستحالة والعبثية.
برغم هذه الاستحالة وتلك العبثية، فإنّ أغلب تصوراتنا عن عملية الإصلاح الديني تدور حول هذا المعنى: إقناع المتطرفين بفساد آرائهم. كشف حججهم المغلوطة، أو فضح استنباطاتهم الخاطئة واستدلالاتهم غير المنطقية. بيان مدى ابتعادهم عن صحيح الدين (كما نفهمه نحن)، وضرورة إعادتهم إلى جادة الصواب.
في هذا الفلك تدور أغلب السجالات الدينية- العلمانية في بلدنا، لتتخذ صورة مهام تبشيرية مُقدسة لتصحيح المفاهيم الملغوطة والعقائد الفاسدة.
هذه الحارة سد. إنه طريق لا يقود إلى شيء.
(2)
طريق الإصلاح الديني يمر عبر السياسة لا الدين.
المعارك الفكرية مع الأصولية، هي في جوهرها معارك سياسية، أو هي تصل في نهايتها إلى محطة السياسة حتى لو انطلقت من مناظرات الفكر أو الخلاف حول التفسيرات الدينية.
في مطلع القرن الماضي دارت سجالات مختلفة فكرية مختلفة في مصر. أغلب هذه السجالات تمحور حول فكرة العلمانية ودور الدين في المجال العام. من بين هذه السجالات تبرز قضيتان تتعلق كل منهما بكتاب. الأول هو كتاب "الإسلام وأصول الحُكم" للشيخ علي عبد الرازق، والصادر عام 1925، والثاني كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين والصادر عام 1926.
برغم أن هاتين المعكرتين دارتا في الأساس حول الفكر وتفسير النصوص الدينية، إلا أنهما كانتا – في واقع الأمر- معبرتين عن صراع سياسي حول هوية الدولة ذاتها. ارتبط هذا الصراع، في جانب منه على الأقل، بحدث جلل هو إلغاء الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك في 1924، ورغبة الملك فؤاد الأول في أن يقتنص لنفسه منصب الخلافة.
الفكر هو ساحة المعركة في الظاهر، لكن السياسة هي الهدف الحقيقي. هي "أصل الخناقة". بعد سنوات قليلة سيتبلور الموقف أكثر بتأسيس جماعة دينية (الإخوان المسلمين) تُعلن بوضوح أن هدفها هو تغيير المجتمع عبر الوصول إلى السُلطة، وأن وسيلتها في الوصول إلى السلطة هي اقناع أكبر عدد ممكن من الناس بالانضمام إليها.
في السياسة لا يكفي أن تكون على صواب، ولكن ينبغي أيضاً أن تحوز الأغلبية. في المجتمعات الديمقراطية وسيلة تحديد الأغلبية معروفة: صندوق الاقتراع. في المجتمعات النامية، هناك وسائل مختلفة وغامضة للحصول على الرضاء العام من القطاعات المؤثرة في المجتمع حول طريقة الحُكم وشرعية الحاكم. في هذا السياق، دارت المعركة بين الإخوان والحُكم في مصر قبل وصول الجيش للسلطة وبعده. لم يجر الاحتكام أبداً إلى الصندوق لحسم هذه المعركة إلا بعد عقود طويلة من بدايتها، ولكنها ظلت – مع ذلك- المعركة السياسية الرئيسية في مصر.
(3)
في الثمانينيات والتسعينيات عاشت مصر سجالات فكرية لا تختلف كثيراً عما نعايشه اليوم. أتذكر صدى تلك السجالات، في المناظرات الشهيرة بين فرج فودة والشيخ الغزالي، وكتاب الأول في الرد على عبد السلام فرج، وفيلم الإرهابي، وسلسلة "التنوير" التي كانت تصدرها وزارة الثقافة، والمناظرات التي اقترح وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين إجراءها في المدارس حول عمل المرأة. كانت كل هذه السجالات تدور حول معنى وحيد: مكان الدين في المجال العام، وفي المجال السياسي على وجه التحديد.
لا أذكر أن هذه السجالات و"الصراعات الفكرية" انتهت إلى نتيجة حاسمة. لم أسمع أن عدد السلفيين والأصوليين قد تراجع، بل العكس هو الصحيح. لم أعرف أن الإخوان تقلص وجودهم في المجتمع، بل العكس هو ما حدث.
هل ذهبت هذه السجالات والمناظرات ومحاولة مناقشة القضايا الحساسة هباء منثوراً؟ بالطبع لا. فمجرد مناقشة الموضوعات وطرح القضايا يُعطي الانطباع للناس بأن هناك فريقين، وأن ثمة رؤى مُتباينة وليس حقيقة مُطلقة. في نهاية الأمر: الناس، الأغلبية الصامتة، هم المستهدف الأول سواء لأنصار الدولة الدينية أو لللعلمانيين.
الأمر كما ترى هو مباراة سياسية من الطراز الأول. محاولة من جانب كل فريق لاستمالة أكبر عدد من المؤيدين لقضيته. ذلك، في واقع الأمر، هو جوهر المسألة. لا يتعلق الأمر بـ"إقناع" الأصوليين إذن، ولكن باستمالة أكبر عدد من الناس للفريق الآخر. الهدف هو "إجبار" الأصوليين –بواقع توازن القوى السياسي وليس المحاجاة الفكرية- على إعادة حساباتهم وتهذيب أهدافهم شيئاً فشيئاً.
(4)
هل هذا ممكن؟
بخلاف الهدف الآخر العبثي وهو اجتثاث الأصوليين أو "إقناعهم" بأنهم على خطأ، فإن تحجيم وجودهم في المجتمع والمجال العام والسياسي هو هدف ممكن، وهو ما ينبغي أن نسعى إليه.
الإصلاح الديني هو أحد أدوات المعركة، ولكن المباراة في الأصل سياسية وليست على تفسيرات هنا أو نصوص هناك. التوازن السياسي هو العامل الحاسم. هو الذي سيُرجح كفة المنتصر.
في هذه المباراة السياسية يظل دور الدولة حاسماً، ودعنا نواجه الأمر بصراحة: المعسكر العلماني ضعيف. نفاذه في المجتمع محدود وتأثيره واهٍ. إنها قضية معقدة تعود جذورها إلى مولد الحداثة المصرية في حضن مشروع الدولة، وليس بمعزل عنها. هذه الحداثة كانت هي الدولة نفسها، حتى صار التمييز بين الأمرين صعباً والخط الفاصل بينهما غائماً.
هذا هو الواقع مهما كرهناه. هو واقعٌ يصعب تغييره في الأجل المنظور. تعثُر مسار 2011 هو –في أحد أوجهه- انعكاس لصعوبة تغيير هذا الواقع، مهما صدقت الرغبات أو صحت النوايا.
(5)
لهذه الأسباب جميعاً، فإن الكثير يتوقف على موقف الدولة. على الحدود التي سترسمها. على المعارك التي ستخوضها. على الخطوط الفاصلة التي ستضعها. على الحول الوسط التي ستصل إليها (ولابد أن يكون هناك حلول وسط، فهي ليست حرباً صليبية، بل توازن قوى سياسية).
الدولة كانت طرفاً في معارك علي عبد الرازق وطه حسين. مواقفها خلقت توازنًا سياسيًا معينًا مع جماعات الإسلام السياسي منذ وقت مبكر. الأرض التي تراجعت عنها، صارت مكسباً لهذه الجماعات. ظلت الدولة الطرف الرئيسي في جميع المعارك الفكرية في ظاهرها، السياسية في جوهرها.
الدولة هي المسئول الأول عن فرض توازن قوى مع الأصوليين لصالح علمانية الدولة. ليس من مهمتها، ولا مهمة أحد، إقناع الأصوليين بأن يتخلوا عن "أصوليتهم". الإصلاح الديني هو أحد الأسلحة في معركة فرض هذا التوازن، ولكنه ليس- بأي حال- السلاح الوحيد.
الإصلاح الديني مشوار طويل، وهو مسار لا بديل عنه وينبغي السير فيه. على أن هذا الإصلاح يظل –في جوهره- عملية فكرية وثقافية ممتدة. مشروع حضاري إن شئت.
أما الوصول إلى التوازن السياسي حول وجود الأصوليين في المجتمع وحدود دورهم (أو تأثيرهم) السياسي، فهو عملية سياسية مُحددة، تتطلب حشداً للناس وشجاعة في المواجهة، وقدرة على الحسم، فضلاً عن رؤية سياسية ثاقبة تضع الخطوط الفاصلة في مكانها بالضبط، بلا تفريط أو إجحاف. وكما هو الحال في أي عملية سياسية، فإن محك البراعة يظل رهناً بالعثور على نقطة التوازن.