الثورة الثقافية التي نريدها
أطلقت دعوة الرئيس السيسي لعلماء ودعاة الأزهر حول ضرورة تطوير الخطاب الديني، بل والحاجة إلى ثورة دينية حقيقية تحرر المفاهيم والمرامي الصحيحة لهذا الدين، شجونًا قديمة جديدة ربما تجاوزت القرن من الزمان، يوم أطلق الإمام محمد عبده صيحات تحرير لعلوم الدين واعتماد التربية سبيلا للتغيير المنشود، حيث كان يقول " من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية.
وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس "كانت صيحته تلك في أبريل من عام 1881 ، أي قبل أكثر من قرن من الزمان، ورغم أن الرجل وجد الأزهر باعتباره تلك الساحة التي تشاركت مع الأوقاف والمحاكم الشرعية كساحات للإصلاح المنشود فقد حدد ملامح التغيير عبر مساحتين.
أولهما: التحرر الفكر من الجمود والتقليد والرجعية الدينية، بسلوك طريق العقل لتجديد الدين وإحياء الدراسات الفلسفية الممزوجة بالآلهيات، وإحداث ثورة فكرية تُغربل بها موروثاتنا الدينية عن الأولين، وخصوصا ما سماه أهل قرون التخلف والركاكة والانحطاط.
وثانيهما: التحرر السياسي من نفوذ الاستعمار الغربي الزاحف على المنطقة وقتها، والتصدي له بالنهضة الحضارية لمغالبته وتجسيد ما سماه الفكر الإسلامي الشورى، في مؤسسات دستورية ونيابية حديثة وتقييد سلطات الحكومات بالدساتير والقوانين، وإطلاق طاقات الجماهير الواسعة في الخلق والإبداع والبناء، وكل ذلك بوساطة الثورة على المعوقات التي تعترض الجماهير في هذا الطريق.
ورغم بروز نغمة الثورة في حديث الإمام، إلا أن مسيرته تلخصها ثلاث كلمات إصلاح فثورة فإصلاح، حيث توسطت أفكاره الثورية رحلة حياته وجهاده بفعل الأثر الذي تركه الأفغاني عليه، قبل أن تتبلور رؤيته النهائية في التغيير اعتمادا على التربية والتدرج، وهو الدرس الذي لم تفهمه حركات الإسلام السياسب التي ادعت أنها نسجت على منواله أو واصلت مسيرته.
عند التأمل في ساحتي الإصلاح عند الإمام محمد عبده، سنجد أنه يتحدث عن خطين متوازيين لعملية التغيير أحدهما الإصلاح الفكري، الذي يتزامن مع الإصلاح السياسي، وهو ما ميّز مدرسة التجديد الذي يعد الرجل أحد أهم فرسانها، والتي انطلقت من أربع مقولات رئيسة:
رفض التغريب والجمود كليهما، الانطلاق إلى تجديد الدنيا بواسطة تجديد الدين، السعي لتأسيس النهضة الحديثة على قواعد التمدن الإسلامي، التفاعل مع الحضارات الأخرى، وفى مقدمتها الحضارة الغربية على النحو الذي يجعل هذا التفاعل عامل قوة لذاتيتنا الحضارية المتميزة وليس عامل مسخ ونسخ وسحق وتشويه.
وكل هذا بالطبع لايمر لديه إلا عبر الاستنارة والعقلانية اللتين هما عماد أي ثورة ثقافية حقيقية يمكن أن نعول عليها.
بالرغم من مرور عقود على تلك الصيحات وتحديد التحديات التي تواجه أمتنا بالانحطاط الفكري والاستبداد السياسي والتسلُّط الغربي على مقدراتنا، فلا زلنا نعاني نفس الأسباب والعقبات والتي دون التعامل معها بشكل متواز في تلك الميادين الثلاث، فلا أظننا نظفر بتلك الثورة الثقافية القادرة على تغيير حياتنا.
ثورة فكرية في الأزهر وفى كل المؤسسات التعليمية والإعلامية، تتقيد برؤية تحدد من نحن في هذا العالم وما هي اختيارتنا الحضارية، وماذا نريد لتحديد ملامح شخصيتنا ومستقبلنا رؤية يشترك في صياغتها رجال الأزهر مع حكمائنا من المفكرين والساسة والعلماء من أبناء الأزهر ومن غير أبنائه.
ثورة تشريعية وسياسية تحرر طاقات هذا الشعب، وتفتح له مجالات المشاركة في إدارة بلده والتفكير والتدبير.
ثورة أخلاقية في البيت والشارع، تحرر المفاهيم الصحيحة التي تعكس حياة بشر متحضرين يدركون طرائق عيش الإنسان الصحيح العقل والوجدان.
وكما حفر لنا الإمام محمد عبده بأفكاره طريقا للتغيير، فقد سطر نظرية لو أخذنا بما تحمل من أفكار لشكلت لنا طريقٍا آمنًا للخروج للمستقبل، سماها الهدايات الأربعة في حياة المسلم التي بدأها بالعقل الذي عماده الاستنارة والتفكير الحر الذي يُمكِن صاحبه من الإدراك والحكم الصحيح، ثم النقل قرآنا وسنة وهو من المساحات التي تحتاج إلى جهد علمائنا في استخلاص حقيقة المقاصد الشرعية، ثم التجربة البشرية المفتوحة التي أنتجت لنا نظريات الحكم والإدارة وتداول السلطة، وكل قوانين العمران البشري التي مضت بها كل مسيرة الإمام.
وفي الأخير الوجدان الذي أضحى سقيما متعبا ودواؤه لا زال يكمن لدى مدرسة الإمام التي نشأ بها وهي التصوف الصحيح على الكتاب والسنة طريقا لشفاء الوجدان المتعب .