التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 06:54 ص , بتوقيت القاهرة

نقابة الصحفيين وسيف الجلاد

المنظومة النقابية في مصر تؤسس لمنظومة ضعيفة مهنيا ومتسلطة نقابياً إذ إن هناك  خلطًا في مصر بين كيانين يُفترض وجودهما:


الأول:  مجلس المهنة وهو مجلس  يضم ممن يعملون بالمهنة أيا كان رب عملهم، ويعمل على حماية المهنة وأخلاقياتها وشروطها، وهي الجهة الأساسية لمنح ترخيص لمزاولة المهنة.


الالتزام بقراراتها بين العاملين بالمهنة هو إلزامي؛ لأنها قرارات متعلقة بالمهنة فقط لا غير، فالمهني  يخضع لمجلس المهنة لأنه من يسمح له باستمرار مزاولة عمله، ولا يتم منعه إلا إذا ارتكب مخالفة مهنية جسيمة.


أما النقابة  فيُفترض أن تكون مكانا يجمع جميع العاملين لدى رب عملٍ واحد، بمعنى أنه يمكن تشكيل نقابة للعاملين بمصنع للحديد تضم المهندس والفني والعامل والمحامي والمحاسب وعمال النظافة  إلخ


لماذا؟ لأن هدف النقابة الأصلي هو مفاوضة صاحب العمل على شروط أفضل، وبالتالي يكون أعضاء النقابة عاملين  لدى رب عمل واحد، وتجمعهم مصلحة واحدة في مفاوضته.


وبالتالي فالعضوية اختيارية والأعضاء ينضمون  لحماية حقوقهم، ويلتزمون بقراراتها اختياريا، وإذا لم يلتزم بعضهم ربما فقط سيقوم زملاؤهم بفصلهم من عضوية النقابة، ولكن لن يترتب على ذلك أي شيء مهني، هم لن يرغبوا هذا تلقائيا فقط لأنه سيضعف موقفهم التفاوضي باعتبار رب العمل يفاوض النقابة بشأن أعضائها فقط.


هذا هو الأصل في منظومة سليمة فلا أحد يستطيع أن يلزمك بعضوية نقابة معينة، بإمكانك أن تنضم لنقابة أو لا تنضم  ولكنك ستسعى للانضمام،  وسيسعون لضمك لحماية  مصالحك التفاوضية مع رب العمل، والنقابة لا تناقشك في قناعاتك أو آرائك الشخصية في أي موضوع،  بل فقط فيما يتعلق بالعمل وبالموقف من رب العمل.


في مصر يبدأ الخلل من هذه النقطة، فالنقابة المصرية هي نقابة ومجلس مهنة معا وهذه أول الأخطاء الكارثية في المنظومة، وكل الكوارث التالية ناتجة عنها، إذ لا يمكن لنقابة أن تجمع العاملين في مؤسسات متنافسة ولهم أرباب عمل مختلفون، مصلحة العاملين لدى مؤسسة هي ضد مصلحة العاملين في مؤسسة أخرى، والعاملون في القطاع العام تتضارب مصالحهم مع العاملين في القطاع الخاص والعكس، فما الذي يجمع هؤلاء في نقابة واحدة؟


تأثير هذه المنظومة على المهنة أولا  كارثي إذ تفقد المؤسسة جزءا كبيرا من قدرتها على وضع وتطبيق  معايير منضبطة لممارسة المهنة، إذ  تؤثر عوامل انتخابية أو سياسية على  قيم المهنة وضوابطها  فتصبح تحت  رحمة  الأكثر نفوذا والأقوى انتخابيا ( في نقابة مثل نقابة الصحفيين مثلا تمتلك بعض المؤسسات الصحفية  نسبة حاكمة رغم كونها ليست بالضرورة أفضل مهنيا من غيرها، وهذا يمهد للتغاضي عن مخالفات مهنية لو صدرت من داخل هذه الكتل نتيجة حرص قيادات هذه الكتل علي موقفهم داخل كتلهم الإنتخابية، وفي نقابة المهندسين أو الصيادلة   قد تصبح الشركة الضخمة أو كارتل للشركات قادر علي وضع معايير مهنية علي مزاجه ومقاسه).


كما أن تأثيرها على العمل النقابي لا يقل كارثية، فأعضاء النقابة هم أعضاء بشكل إجباري وهم لا يفاوضون رب عمل واحد، وهذا يضعف ثقافة العمل النقابي الحقيقية، ويضعف ثقافة ومهارات العمل السياسي والتفاوضي، بل ويضعف  توازن علاقة رب العمل والعاملين، وبالتالي تتحول القيادات النقابية من وسيط بين عاملين وصاحب العمل إلى وسيط بين عاملين بمهنة معينة والجهة الوحيدة التي يمكن أن تكون مظلة للعاملين بكل هذه الجهات المختلفة ألا وهي الدولة، فتصبح قيادة النقابة تُلزم أعضاءها بمواقف معينة مقابل مكاسب من الدولة مقدمة من مجموع المواطنين أو من الأعضاء عبر اشتراكات لا يملكون خياراً سوي دفعها.


وهكذا يتم فتح الباب لممارسات غير مهنية وغير نقابية بل ولممارسات تسلطية كذلك، لو عدنا مثلا لقضية الدكتورة  هالة مصطفى فقد قامت النقابة بالتحقيق معها على خلفية لقاء مع مسؤول إسرائيلي ووجهت إنذارا لها، وعاقبت آخر بالمنع من الكتابة الصحفية ثلاثة أشهر لأنه خالف قرار النقابة بـ(عدم التطبيع مع إسرائيل).


كانت الهيئة التأديبية تلك برئاسة وكيل نقابة آنذاك هو الاخوانجي صلاح عبد المقصود (ابقي تعالي وأنا أقولك فين) وبعضوية وكيل حالي للنقابة كان وكيلها آنذاك. النقابة رأت أنه يحق لها محاسبة أعضائها على أفكارهم وتوجهاتهم التي لا تؤثر في المهنة (دور مجلس المهنة)، والتي لا تؤثر في قوتها أمام رب عمل ( دور النقابة) بل تحولت لجلاد، وبالطبع فإن التذرع بكون هذا قرار للنقابة هو أمر مضحك أصلاً، إذ لا يجوز لجهة تدعي الدفاع عن الحريات أن تقوم بتأميم الحريات لمصلحة تصويت الغالبية فيها، ماذا لو أصدرت النقابة قرارا مثلا بمنع طلاق أعضاء النقابة وفصل المخالفين؟


قد يبدو الأمر مضحكاً ولكنها حالة مشابهة  للقرارات الهزلية، لنترك الهزل جانبا، ماذا لو أصدرت نقابة الصحفيين قرارا بمنع أعضائها من تأييد مرشح معين؟ هل يمكن إلزام الناس بهذا القرار والتذرع بكونه قرارا نقابيا وملزما للأعضاء ؟ أم أن إصدار هذا النوع من القرارات يفتقد أصلا أي مشروعية إخلاقية وأي مشروعية ترتبط بالعمل المهني أو النقابي كذلك.


كما أن اقتران الالتزام بالقرار بالتهديد بمنعك من ممارسة عملك بوقفك أو شطبك مثلا هو أعلى درجات التسلط ، المدهش أن صحفيين  يدعون الدفاع عن الحرية كانوا طرفا في هذه المهزلة.


نفس الموقف يتكرر في أزمة مرتضى منصور مع النقابة، لا يهم هنا موقفك منه، ولا نتحدث هنا عن مخالفاته وتجرؤه علي تهديد أعضاء في النادي لمجرد كونهم صحفيين وهذه كلها مخالفات جسيمة وغير قانونية  بالطبع ، ولكننا نتحدث عن موقف النقابة العجيب وهو إصدار قرار بمنع نشر أي خبر لشخص معين  نتيجة خلاف، وإلزام كل الأعضاء بذلك ومن لا يلتزم ستتم معاقبته.


والغريب تبرير هذه الممارسات العجيبة،  فقد كان بإمكان مجلس النقابة أن يقول إنه  سيدافع عن حقوق الصحفيين الذين لحقت بهم إهانة على يده عن طريق دعوة أعضائه لتنفيذ هذا الحظر طوعيا، وعمل قوائم سوداء لمن يرفض الالتزام لإظهار أنهم فرطوا في حق زملائهم، والاستفادة من هذا انتخابيا الخ ، وبالطبع كان يمكن حتى معاقبتهم بالفصل فقط إذا كانت النقابة نقابة فقط وليست مجلس مهنة يرتبط بقراراتها عمل هؤلاء الأشخاص،  لكن أن تتحول النقابة لسيف على رقبة أعضائها بالقوة الجبرية فهو قمع ببساطة.


 كما أنه إذا كانت إهانة الصحفيين من شخص تعني قرارا جماعيا  مُلزما لكل الصحفيين إجباريا  بمقاطعته ومنع المجتمع من حقه في المعرفة، فهل إهانة أفراد الشرطة مثلا سيتبعها عدم تقديم الشرطة خدماتها لمن وجه الإهانة، وهل ستمتنع نقابة الأطباء عن علاج من يشتم الأطباء؟ النقابة إذن تستخدم تصريح مزاولة المهنة المرتبط بالعضوية كأداة لابتزاز أعضائها وليس لإفادتهم ولا لإفادة المهنة.


وهذا  كله يقودنا لموقف النقابة من الصحافة الإلكترونية ورفضها لعضوية هؤلاء في النقابة، والنتيجة أن الصحفي  الشاب يتعرض وهو يمارس مهام عمله للاعتداء والتشهير والمهانة  لكونه يمارس عمله دون عضوية النقابة، وهكذا تمارس النقابة تسلطاً جديدا مرتبطا بدور الوكيل الحصري وصاحب الامتياز الاحتكاري للسماح لك بممارسة مهنة  وفق قواعدها، فلا الدولة سمحت لك بتأسيس نقابات بحرية كما هو طبيعي، ولا النقابة سمحت لك بممارسة المهنة ولو  دون التمتع بمزايا نقابية.


وفي النهاية أنت ضحية هذا النظام الغريب المبني أساسا على منظومة تسلطية، المضحك أن تجد ذلك الصحفي الشاب لا يزال يهرول خلف عضوية  النقابة بغضب، بينما يؤيد بكل سعادة بقية الممارسات الدكتاتورية لنفس المنظومة، وهو لا يعلم أن ما صفق له هو ما أبقى المنظومة الفاشلة التي تسحقه قوية.