عن بعث أنبياء الله.. الأمهات أول من يعلم
لكل نبي حال مع والدته، لم يذكر القرآن أو كتب التاريخ والسيرة النبوية أحداث وقعت بين نبي ووالده، لكن القصص انصبت على علاقة النبي بوالدته، فالقرآن وصف ما شعرت به والدة سيدنا موسى لحظة فراقه وصفا دقيقا، وسرد قصة المسيح مع السيدة مريم شرحا وافيا، ثم جاءت السيرة النبوية لتحكي تفاصيل ما رأته وشعرت به والدة المصطفى صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن.
وفي هذا التقرير نعرض كيف عرفت كل من والدة موسى، السيدة أيارخا، ووالدة عيسى، السيدة مريم، ووالدة محمد، السيدة آمنة بنت وهب، بأن أبنائهن أنبياء مرسلين من قبل الله عز وجل، وذلك حسب ما ورد في التراث الإسلامي.
أيارخا والكليم
تعتبر قصة سيدنا موسى كليم الله عليه السلام، وميلاده من القصص التي ذكرها القرآن بتفاصيلها، ليضرب بها المثل في الثقة بالله، وكانت والدته السيدة أيارخا، (وفي روايات أخرى بادونا أو يوحاند)، هي بطلة هذه القصة، فبعد أن أمر فرعون بقتل الذكور حتى لا تتحقق نبوءة الكاهن الذي حذره بأن أحد أطفال بني إسرائيل سيقتلع ملكه، وهو نفس الوقت الذي وضعت فيه السيدة أيارخا ابنها موسى، ولخشيتها على ولدها من القتل، وضعته في صندوق والقته في اليم، بعد أن أوحى الله إليها بذلك.
وكان المولى عز وجل قد أوحى إليها، كما جاء في سورة القصص "أَنْ أَرْضِعِيهِ"، وكان الوحي إليها قذفا في القلب، كما ذكر الطبري في تفسيره، فتملكها الخوف، فأوحى الله إليها مرة أخرى "فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي"، واليم هو النيل بحسب تفسير الطبري، فكأن الله يقول لها لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه، ولا تحزني لفراقه.
ثم جاءتها البشرى الكبرى بأن الله سيرده إليها، ويجعله من النبيين المرسلين، فأوحى "إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"، وهنا علمت أن ابنها سيكون من النبيين الذين سيحفظهم الله بحفظه، فلما تركته في اليم وأخذته امرأة فرعون، وصف القرآن حالتها فقال عز وجل "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى? فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى? قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، ثم زيادة في الطمأنينة، رد الله عليها ابنها بعد أن حرم عليه المراضع، فقال "فَرَدَدْنَاهُ إِلَى? أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ".
مريم والمسيح
بعد أن اتهمها قومها واستغربوا أن أنجبت دون زواج، لم تجد السيدة مريم إلا أن تشير وهي صائمة إلى ولدها السيد المسيح عليه السلام وهو ما زال طفلا، فقالوا لها "كَيْف نُكَلِّم مَنْ كَانَ فِي الْمَهْد صَبِيًّا"، فغضبوا واعتبروا أنها تسخر منهم، إلا أن المعجزة قد حدثت فإذا بنبي الله عيسى ينطق لسانه وهو ما زال في المهد، قائلا: "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا"، ويقول الطبري في تفسيره أن معنى ذلك أن الله قضى له بالنبوة يوم قضى أمور خلقه.
ثم استكمل المسيح كلامه، فقال، "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا"، وهنا تأكد للسيدة مريم أن وليدها الذي وضعته بمعجزة إنما هو نبي مرسل من قبل الله.
آمنة والمصطفى
السيدة آمنة بنت وهب لم تكن أقل حظا من أيارخا ومريم، فقد رأت الآيات العجيبة وقت ولادته، وفي مجمل الروايات التي عرضها أبو نعيم والقسطلاني والسيوطي والصالحي الشامي وابن كثير وبرهان الدين الحلبي، فإنها وصفت حال ميلادها للنبي قائلة: "أخذني المخاض فوضعت محمدا، فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل".
ثم تستكمل فتقول: "رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عني، فسمعت مناديا ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سُمي فيها الماحي، لا يبقى شيئا من الشرك إلا مُحِي في زمنه، ثم تجلت السحابة عنه في أسرع وقت، فإذا به مدْرَج في ثوب صوف أبيض وتحته حريرة خضراء، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب، وإذا قائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصرة، ومفاتيح الريح، ومفاتيح النبوة"، وقتها تأكدت أن ولدها نبي الله كجده سيدنا إبراهيم عليه السلام.
لما شارفت السيدة آمنة على الوفاة، وبعد أن رأت عدة رؤى منامية تؤكد أن ولدها نبي، أوصته، كما ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة، فقالت له:
إن صح ما أَبْصَرْتُ في المنام *** فأنت مبعـــوث إلى الأنام
من عند ذي الجلال والإكرام *** تُبْعَثُ في الحل وفي الحـرام
تبعث بالتحقيق والإســـلام *** دين أبيك البَـــرِّ إبراهـام
فالله أنهـــاك عن الأصنام *** أن لا تواليهـا مع الأقــوام