الإعلام الغربى والرقص على إيقاع الـP.R.. محتوى موجه عن العاصمة الإدارية يتجاهل الأرقام والتقارير الدولية.. مغالطات فى النظر للسوق وتحليل بنية الاقتصاد.. وتجاهل مشبوه لسنوات الفوضى وخطة الإصلاح وتأثيرات كورونا
ذابت الحدود بين الإعلام والإعلان. حتى فى أعرق المؤسسات الصحفية العالمية، بات هناك تداخل تختلط فيه صالات التحرير بشركات العلاقات العامة. السنوات الأخيرة شهدت خروقات لا يُمكن إنكارها، منها نموذجا موضوعات تحريرية ومقالات لقيادات إخوانية وموالين للجماعة، مثل: يحيى حامد وجهاد الحداد وعمرو دراج وأيمن نور، فى إصدارات عالمية بارزة كالجارديان ونيويورك تايمز وفورين بوليسى. حتى الآن ربما يرى البعض أن تلك النوافذ تلتزم معايير مهنية وتحريرية دقيقة، لكن الحقيقة أن المقالات الدعائية الموجهة، وتبنى وجهة نظر واحدة، وعدم تمييز المواد المدفوعة بالرسم أو الإشارة، كلها تجاوزت تُسقط دعاوى المهنية، وتذهب بمنصات الإعلام إلى حيز البروباجندا والتسويق والنشر الموجه!
حتى نتجاوز عموميات الحديث إلى التطبيق. كانت أحدث حلقة فى تلك الخروقات المتكررة، تقرير يبدو أنه مدفوع على صفحات فاينانشيال تايمز، انتقد العاصمة الإدارية الجديدة مستخدما تعبير "عاصمة فى الصحراء"، وكأنه وصم يُمكن أن يحد من فائدة المشروع أو يقلص قيمته الاقتصادية. المغالطة المبدئية أن المدن الجديدة تبدأ دائما من الصحارى والمناطق المهجورة، أما البناء على أنقاض المدن القديمة فلا يؤسس عمرانا جديدا ولا يمثل قيمة مضافة وتنمية مكتملة الفائدة. يبدو المدخل وكأن المحرر ينطلق من انحياز مسبق، ورغبة مقررة سلفا فى الوصم والحط من قدر المشروع، وهو أمر يمس الموضوعية وينتقص من المهنية ويقدح فيما يتلوه من أفكار وآراء، ومن نافلة القول أن نُذكّر بأنه لا حاجة لمنصة بارزة مثل "فاينانشيال تايمز" فى هذا التورط، ما لم يكن الأمر مدفوعا أو موجها أو على مقياس يناسب متلقيا بعينه!
تفتتح الصحيفة تقريرها بفقرة بالغة الدعائية، تعتبر المشروع إصرارا شخصيا من القيادة السياسية، وليس ضمن رؤية اقتصادية وخطة تنمية طويلة المدى تُنفذها الدولة فى إطار برنامج 2030 واستراتيجية التنمية المستدامة، ويتمادى التقرير متورطا فى عبارة إطلاقية مثيرة للاستغراب: "يعتبر المشككون فى المشروع أنه يُعد مشروعا مغرورا يُمكن لأولويات أكثر إلحاحا أن تتأثر بتكاليفه". هكذا إجمالا يُشير مُحرر فاينانشيال تايمز إلى دائرة من المشككين، ثم يصف العاصمة الجديدة بـ"الغرور" نسبة إليهم، دون أن نعرف هوية المُشككين وانتماءهم وخلفياتهم المعرفية، أو مفهوم الغرور، أو قائمة الأولويات التى اعتبرت الصحيفة نفسها ممثلا للشعب المصرى فى ترتيبها والحكم على أداء الدولة من خلالها!
عمليا، لم تُرتب العاصمة الإدارية أية ضغوط على الموازنة ومخصصات الإنفاق العام، وهو ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى وأكده فى أكثر من مناسبة، فضلا عن أن المشروع رفع القيمة التسويقية للمنطقة "الصحراء بحسب الصحيفة" محققا عوائد قياسية مباشرة لشركة العاصمة الإدارية، مثّلت موردا لتمويل كثير من الأعمال والمشروعات، فضلا عن شراكة واستثمار مباشر من عشرات الشركات والمطورين العقاريين. الأهم أن النظر إلى الموازنة العامة وإنفاق الخدمات والرعاية الاجتماعية يؤكد أن الأولويات لم تتضرر أو يتغير ترتيبها، وما يزال ملايين المصريين يتمتعون بواحدة من أوسع مظلات الدعم والمساندة فى كل الدول المناظرة لمصر اجتماعيا واقتصاديا، وفضلا عن ذلك فإن مزايا إنجاز المدينة تتضمن تفريغ القاهرة، والاستفادة بمئات المبانى الحكومية ذات الطبيعة التراثية، وتعزيز قدرات صندوق الثروة السيادية وموارده، وتقليص الزحام، وإيقاف إهدار نحو عشرات مليارات الجنيهات بسبب أعباء الكثافة السكانية (بحسب تقرير للبنك الدولى كانت خسائر الزحام 8 مليارات دولار بالعام 2014، بما يتجاوز 120 مليار جنيه تقريبا بالمستويات الحالية) مع توقعات بتجاوزه 500 مليار جنيه فى غضون عشر سنوات من الآن.
فى الوقت الراهن تسجل مصر نموا سكانيا سنويا بنحو 2.3% تقريبا. تجاوز التعداد العام بالداخل 100 مليون نسمة، ومن المتوقع أن نصل لنحو 160 مليونا بالعام 2050. إلى ذلك، تحتاج السوق نحو مليون وحدة سكنية جديدة كل سنة، بحسب خبراء وأكاديميين ومطورين منهم هشام طلعت مصطفى، وبطبيعة الحال لا يحتمل الوادى القديم هذا التمدد العمرانى، لذا لا بديل عن اختراق الظهير الصحراوى، وليس منطقيا اعتبار هذا التوجه وصما أو خللا فى الرؤية. ننتظر 60 مليونا خلال أقل من ثلاثين عاما، ونحتاج أكثر من 40 مليون وحدة خلال الفترة نفسها، وبمتوسط مليون نسمة فإننا نحتاج 60 مدينة جديدة بإمكانات متطورة وقدرات تمدد مستقبلية تُناسب نمو السكان والطلب على العقار. وبالمقابل لم تعد القاهرة قادرة على استيعاب قاطنيها، ومن غير المتوقع إطلاقا أن تصبح قادرة على الحياة أصلا فى غضون عشر سنوات أو أقل، ومن هنا فإن العاصمة الإدارية ضرورة مُلحة وليست رفاهية أو ترفا أو توجها مغرورا.
أخطر ما ينطوى عليه تقرير فاينانشيال تايمز، محاولة الإيحاء بأن قطاع العقار يمثل فقاعة اقتصادية مُهددة بالانفجار، وبحسب تعبيره: "قطاع العقارات والبناء يضم عمالة وهمية، وبمجرد التوقف عن البناء لن توجد وظائف". الصحيفة تفترض أن قطاعا ضخما فى اقتصاد نامٍ بوتيرة مستقرة، مجرد مقاولة عابرة ستنتهى بمجرد إنجاز المشروعات القائمة. هذا التصور يفترض أن مصر وصلت إلى التشبع عمرانيا، وهو افتراض ساذج انطلاقا من حالة الاقتصاد، وقدرات النمو والاستثمار، ومستويات الطلب واحتياجات مصر من المنتجات العقارية على تنوعها. من هذا المنطلق يصعب القول إن ملايين الوظائف القائمة ستتبخر بمجرد انتهاء مشروعات العاصمة الإدارية، لذا فإن استنتاجات التقرير تبدو غريبة وغير مفهومة، فضلا عن أنها تتجاهل ضغوط الاقتصاد العالمى خلال العامين الأخيرين، وفاعلية المشروعات الحكومية ومنها العاصمة الجديدة فى تنشيط الاستثمار وتعزيز قدرات النمو، وإبقاء كل تلك الوظائف بمأمن بعدما كانت مهددة بالتبخر بسبب تداعيات كورونا وتأثيراتها السلبية على الأسواق، محليا وعالميا!
كل ما فات كان مقدمة فقط. يصل التقرير إلى مبتغاه والنقطة التى صُمم من أجلها أصلا، بالحديث عن الدور الاقتصادى للجيش، مدعيا أنه "يدفع القطاع الخاص ليكون أكثر جُبنا ويخيف المستثمرين". وبعيدا من حقيقة أن الأنشطة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية تتركز فى مجالات خدمية متصلة بالمعيشة والأبعاد الاجتماعية بالأساس، فإن دورها كان ضرورة ظرفية عقب موجة فوضى عارمة فى 2011، وتوقف شبه كامل للاستثمار الأجنبى حتى أواخر 2013، واحتياج عاجل للتركيز على مشروعات المرافق والبنية التحتية وشبكات الطرق، وهى ركائز أساسية للتنمية فضلا عن كونها مجالات غير مُغرية فى ظروف أمنية وسياسية مرتبكة، ولم يكن متوقعا أن يضطلع القطاع الخاص بهذا الدور العاجل، ومن هنا تدخلت الدولة ومؤسساتها لإنعاش الاقتصاد وتعزيز جاذبية السوق للاستثمار، مع إيمان قائم ومستقر بمبادئ السوق الحرة وضرورة الاستثمار ودور القطاع الخاص المحلى والخارجى.
مشكلة فاينانشيال تايمز، وربما غيرها من النوافذ وأنبياء الليبرالية الجديدة، أنهم ينظرون للعالم بكامله من منظور "الموديل" واجب التطبيق، منطلقين من تصور غير ناضج خلاصته أن ما نجح فى أوروبا والولايات المتحدة يُمكن أن يكون دينا ونصوصا واجبة الاتباع فى كل الدول. هذا الافتراض يتجاهل اختلاف السياقات وتفاوت الأحوال، وطبيعة الضغوط والاحتياجات المتغيرة من سوق إلى سوق ومن بلد لآخر. مثالا لا يحب مُبشرو الليبرالية الجديدة أن يكون للدولة دور مباشر فى الاقتصاد، سواء بالإنفاق أو التوجيه أو الاستثمار المباشر، وفى المقابل فإن فرنسا الليبرالية نموذجا سجلت إنفاقا حكوميا بين 55.4 و57.2% فى الأعوام من 2011 حتى 2019، وقفز المعدل لأكثر من 62% بالعام 2020 لتلافى تأثيرات كورونا. لم يعتبر أنبياء فاينانشيال تايمز والليبرالية الجديدة هذا السلوك انتهاكا لقيم السوق الحرة، ولم يضعوا فرنسا فى زُمرة اليسار وورثة الاشتراكية وشيوعية الاتحاد السوفيتى. الأهم أن تدخل الدولة ليس شرا مستطيرا، ولا يعنى الفشل بالضرورة. الصين صاحبة ثانى أكبر اقتصاد بقرابة 17% من إجمالى الناتج العالمى، وسجلت معدلات نمو قياسية هى الأكبر تقريبا لنحو ثلاثة عقود، وتلك النهضة الملفتة تتأسس على إدارة مركزية وحضور مباشر وقوى للإنفاق الحكومى وشراكة الدولة مع القطاع الخاص المحلى والخارجى!
بعيدا من ذلك، فإن الإغفال المتعمد لحزمة الجهود التشريعية والتنفيذية الرامية لتحسين مناخ الاستثمار ورفع جاذبية السوق، يبدو وكأنه أحد الأهداف المباشرة للتقرير، إذ إلى جانب التركيز على دور الدولة فى الاقتصاد، وتصويره بوجه سلبى كأنه يُقوض السوق ويخنقها، لم يُشر تقرير "فاينانشيال تايمز" إلى باقة تشريعات شملت تعديل قانون الاستثمار وتقدم حوافز ومزايا وإعفاءات ضريبية وجمركية للمستثمرين، وتيسير تأسيس المشروعات واستخراج التراخيص، وإصلاح هياكل الاقتصاد وضبط سوق الصرف، وتدشين مشروعات قومية للتحول الرقمى وميكنة الخدمات والشمول المالى واستيعاب السوق الموازية بالاقتصاد الرسمى، فضلا عن حزم المساندة المباشرة للشركات وبرامج تمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة وتشجيع البنوك على توسعة محافظها الائتمانية، وصولا إلى مشروع الصكوك السيادية لتعميق الشراكة المباشرة بين الدولة والقطاع الخاص، وتمويل المشروعات التنموية العملاقة، مع الاتجاه لتنفيذ أضخم برنامج للطروحات الجديدة وإدراج الشركات العامة فى سوق المال، والاستعداد لخصخصة عدد من الشركات المهمة، ومنها شركة "وطنية" للبترول، وشركة المياه والزيوت "صافى" وغيرها.
هكذا تبدو الصورة على حقيقتها. تتدخل الدولة لإنجاز الاحتياجات العاجلة والمشروعات الحيوية التى قد لا يبادر لها القطاع الخاص أو تتعطل إذا اضطلع بها وحده، وفى إطار ذلك تحقق طفرات فى البنية التحتية والخدمات، وترفع قيمة الأصول والأراضى، وتزيد الإيرادات العامة، وتؤسس ركائز تنموية وروافع صالحة لتعزيز الاستثمار والنمو، وبالتزامن مع ذلك تحافظ على التزاماتها تجاه القطاع الخاص، واحترامها لقيم ومبادئ السوق الحرة، وتُشجع الاستثمار واجتذاب رؤوس الأموال، وتحفز ريادة الأعمال والمشروعات الصغيرة، ولا تُغفل الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والإنفاق المرتبط بالمرافق والخدمات والرعاية الاجتماعية. لكن للأسف لم تر "فاينانشيال تايمز" فى تقريرها إلا جانبا واحدا، ليس لأن الصورة لا تُظهر غيره، ولا لأنها مُزدحمة بالتفاصيل صعبة الإحاطة والاستيعاب، إذ يُمكن لأى مُنصف أن يرى وأن يدور حول المشهد ليُحيط بكل تفاصيله، ولكن يبدو أنه التوجيه والاجتزاء والدعاية المدفوعة، ومن المؤسف أن تتورط منصة مثل "فاينانشيال تايمز" فى المعالجات السطحية، والتكهنات والاجتزاء بصورة مضللة، أو أن تتورط فى الرقص على إيقاع الـp.r ومن يقفون وراء شركات العلاقات العامة من ممولين وأصحاب أهواء، من الحكومات الشهيرة بالإنفاق السخى على هذه الأنشطة، أو الجماعات المتطرفة التى اخترقت عقل الغرب، وتُمسك آلات الإيقاع للراقصين فى كثير من مؤسساته ونوافذه الإعلامية.