داليدا..طاقة البهجة ..رسولة الحب..ودراما التعاسة والشهرة
نعجب حينما تأتي سيرة "داليدا" ويتحدث أحدهم عن واقعة انتحارها، وينتهي الكلام فجأة كما بدأ، كأن صاحبة تلك الأغاني المهمة التي لم تزل محفورة في أرواحنا، لم تعد هناك لمجرد أن صاحبتها أصيبت بالتعاسة في نهاية حياته، فآثرت أن تضع بنفسها كلمة النهاية.
أتأمل صورة داليدا بإحدى مواقع الصور، وهي ترتدي فستانا مزركشا بورود زرقاء، وأشاهد الفيديو الذي بكت فيه حينما عادت إلى منزلها، وقفت في شرفة بيتها المطلة على شارع خماريه بشبرا، وتذكرت أيام صباها، تذكرت أن البيت لم يكن يحوي شرفتين، بل "تراس"، تشرد عيناها، وهي تتذكر أحلى أيام قضتها في شوارع القاهرة، قبل أن تغادرها، إلى العالمية.
منحت داليدا الحب والأمل للكثيرين، منحته لمن حولها، وعجزت عن أن تجده، كأنها تخالف ما يقال دائما، أن فاقد الشيء لا يعطيه، منحت الحب، والسعادة، وفي أغانيها كان بوسعك أن يخفق قلبك، حتى إن لم يكن قلبك مشغولا بإحداهن، تسمع صوتها، فتشعر أن آلاف السيمفونيات تتردد في أذنيك، تشعر لا إراديا بالشوق والحنين، وتشعر أن أغنية واحدة لا تكفيك من أغانيها، المصرية، أو الفرنسية، فتستمع للمزيد، حتى إن كنت لا تستطيع فهم كلمات أغنياتها، لكن الموسيقى وحدها تكفي، والموسيقى تلهمك فهم مشاعرها.
في كتابه المهم " شبرا..إسكندرية صغيرة في قلب القاهرة" يقدم أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي، فصلا كاملا عن داليدا، المولودة في شبرا، ولكنه لا يخص شبرا فقط بالحديث، بل يمر مرورا دقيقا على المشهد السياسي والاجتماعي التي كانت تعيشه مصر، قبل مجيء داليدا للحياة.
يكشف عفيفي كيف احتلت الجالية الإيطالية في مصر أهمية خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، وجاءت بعد الجالية اليونانية من حيث تعداد السكان، يقول محمد عفيفي: وُلدت داليدا أو يولاندا كريستينا جيجليوتي في 17 يناير 1933، في حي شبرا بالقاهرة، كان الحي كوزمبوليتاني، حي المهاجرين من شرق البحر المتوسط، وأيضا حي المهاجرين المصريين من الريف إلى العاصمة.
على بعد 200 متر من بيت داليدا سكنت عائلة مؤلف الكتاب، كانت داليدا تسكن في 11 شارع خمارويه المتفرع من شارع شبرا، ولم تكن ولادتها في هذا المنزل مصادفة، بل تعبيرا عن الوجود الإيطالي في الحي، كما يبعد منزلها عن المدرسة الإيطالية الشهيرة الواقعة على شارع شبرا، التي تحولت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة فيكتوريا، ثم أصبحت بعد ذلك أول مقر لكلية الآداب في جامعة عين شمس المصرية.
يحكي محمد عفيفي كيف أن الشبان الإيطاليين كانوا مهووسين بموسوليني، وكانوا يرتدون القمصان السوداء، ويستعرضون أنفسهم على متن الدراجات البخارية، على طول شارع شبرا كأنه أحد شوارع روما، في هذه الأجواء ولدت داليدا من أبوين إيطاليين وُلدا أيضا في مصر، تقدمت داليدا إلى مسابقة Miss Egypt عام 1954، وتم اختيارها ملكة جمال مصر في ذلك العام، وبدأت العمل في السينما، وحسبما يري عفيفي، فإن أهم أفلامها "سيجارة وكأس" وذلك قبل انطلاقها إلى فرنسا، لتصبح بنت شبرا المصرية الإيطالية، النجمة الشهيرة.
عادت داليدا في الثمانينات إلى القاهرة، لتلعب دور "صديقة" في فيلم "اليوم السادس، الذي تم عرضه عام 1986، ودارت أحداثه عن جدة تواجه مرض حفيدها بالكوليرا، خلال فترة حكم الملك فاروق، تحاول داليدا في الفيلم إخفاء الحفيد 6 أيام عن الناس، كي تحميه من السلطات التي كانت تجمع مرضى الكوليرا في مخيمات، لعزلهم عن غير المصابين، تكافح الأم لإخفاء خبر إصابة الحفيد بالكوليرا، وتحاول السفر به خارج البلد، إلى الإسكندرية، في الفيلم نرى كيف تؤدي داليدا دور الجدة المكلومة على حفيدها، خاصة حينما تكتشف في النهاية أن جهدها الذي قضته طيلة 6 أيام وسهرها على راحته حتى يشفى، ضاع سدى، لم يفلح جهدها في حمايته من المصير المحتوم، تصرخ في النهاية صرخة أم ملتاعة بعدما تتأكد من فقده.
في العام 2017، شاهدت أكثر من 35 دولة، الفيلم الفرنسي الذي تم إنتاجه عن حياة داليدا، وشقيقها "أورلاندو" ولخص الفيلم حياتها وركز على زيجاتها، وحياتها العاطفية، رصد الفيلم صعودها إلى قمة النجاح ببيعها أكثر من 150 مليون نسخة من تسجيلاتها، وانتحارها عام 1987، الفيلم تم أخذه عن كتابين، إحداهما لكاثرين ريوهيوت، والثاني لأوراندو الشقيق الأصغر لداليدا.
إذا كانت الأعمال السينمائية القليلة التي شاركت فيها داليدا، لم تتناول حياتها الحقيقية، وإذا كان العمل الفرنسي الوحيد الذي تناول بضعة مشاهد من حياتها، مأخوذ من كتب كتبها آخرون عنها، فإن قصة حياتها لم تزل عنوانا مغريا للروائيين ولكُتاب السير، أن يقبلوا على كتابتها، سيظل صوتها يتردد في آذاننا وفي الخلفية تتردد في عقولنا مشاهد من دراما حياتها التي كانت عنوانا عريضا للشهرة التي لم تصد التعاسة عن قلبها.