أيمن عبد التواب يكتب: مسالك الشهرة.. «تبول» حتى أراك..!
كثيرة هي وسائل الحصول على الشهرة، أو إثارة الجدل.. أسهلها وأرخصها الخروج على المألوف قصدًا وبنية مبيتة مع سبق الإصرار والترصد، أو جهلًا مع افتراض حسن النية!
يقول سقراط: «تكلم حتى أراك».. بينما يسير آخرون بمنهج: «تبول حتى آراك».. هذان نموذجان كاشفان عن طبيعة شخصية بعض الباحثين عن الشهرة!
في لقاء قديم جمعني بـ«راقصة/ فنانة استعراضية/ سياسية/ إعلامية» سألتها عن سر إصرارها على التعري، وما الذي تستفيده من تقديم مثل هذا الإسفاف؟ فجاءت إجابتها واضحة وضوح كذب توقعات هيئة الأرصاد: «أنا ممكن أعمل أي حاجة عشان أتشهر، وكل الناس تتكلم عني!»
الشهرة نعمة، لكنها قد تتحول إلى نقمة على صاحبها إذا ما تحولت إلى مرض يصعب علاجه أو السيطرة عليه.. وللأسف فإن كثيرين راحوا ضحية الشهرة، بعضهم كاد أن يفقد حياته، والبعض الآخر أصبح أسيرًا لعيادات الطب النفسي، وسجينًا للمهدئات وأدوية الاكتئاب.
والحديث عن مسالك الشهرة ودروبها طويل وطريف وشائق.. وكتب التاريخ والتراث العربي مليئة بنماذج كثيرة للباحثين عن الشهرة، وعلى أتم الاستعداد لفعل أي شيء- أي شيء- من أجل بلوغ المراد.
هناك واقعة يرويها الإمام مسلم في صحيحه، إذ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب النبي: مه مه. فقال الرسول: لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثم دعاه النبي فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن. فأمر رجلًا من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنّه- فصبّه- عليه.
هذا الرجل نال من الشهرة ما لم ينله آخرون، وقد خلدت كتب التاريخ والتراث الإسلامي قصته، على الرغم من أنه لم يكن يقصد- بفعلته- شهرة ولا أي شيء آخر.
هذه الرواية على النقيض تمامًا من الرواية التي يرويها الإمام ابن القيم الجوزي، من أن حادثة وقعت أثناء الحج، وقال: بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحُجّاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة.
فقال له الوالي: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، ويذكروني ولو بالسب واللعنات.. ويقولوا: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!
ما فعله الأعرابي يفعله كثيرون من «مهاويس الشهرة»، والسائرون على طريقة «خالف تعرف»، وما أكثر أتباع هذه الطريقة في هذه الأيام، وفي المجالات كافة!
مثلًا في الرياضة قد يقص اللاعب شعر رأسه قصة غريبة، بهدف جذب الأضواء التي انحسرت عنه بسبب تراجع مستواه! وقد يضطر المطرب إلى تسريب شائعة بأن صوته «اتحبس» ولم يعد قادرًا على الغناء.. وربما يضرب بعض الدارسين غير المتخصصين في ثوابت الدين؛ لمجرد أن يقولوا للناس «نحن هنا».. وقد تروج إحدى الراقصات بأنها ستعتزل الرقص وترتدي الحجاب؛ فيزداد الطلب عليها رقصًا، وتمثيلًا، وغناءً، وربما تقدم برنامجًا تليفزيونيًا.. وقد يروج أحد الذين يطلق عليهم لقب باحثين شائعة «إلحاده»، أو «تنصره»، أو «إسلامه»؛ لينال شهرة ما كان سينالها لو ظل قانعًا بحاله، ولم يتمرد على مجتمعه!
ربما يقول قائل: أليس ذلك من قبيل الحرية التي كفلها الدستور؟ ثم لماذا التخوف من مهاويس الشهرة ودعاة الإثارة؟ هنا يقول ابن قتيبة: «الناس أسراب طير يتبع بعضهم بعضا، ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن محمدًا خاتم الأنبياء، أو يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعًا وأشياعًا»!
و«الإعجاب آفة الأحباب، ومن أُعجِب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل». يقول ابن عبد البر.. وقيل إن الشهرة «سربال الهوى»، فمن اشتهر تعرض للفتنة، ومن تعرض للفتنة سينال «عَجَرَهَا وبَجَرَها».. وطالب الشهرة أسيرٌ لخوفٍ لا ينقطع وإشفاقٍ لا يهدأ.. وربما مات في طلب الشهرة ولم ينل شيئًا منها يقربه إلى الله!