"زبيدة" التي لا نعرفها !!
لكل عصر، "زبيدة" الخاصة به.. التي تشبهه.. فتعد أيقونة جماله أو قبحه.. وتشير إلى رقيه أو انحداره، كما تعكس مدى حضارته أو انحطاطه، فحتى ثمانينيات القرن الماضي كان يكفي أن ينطق اسم "زبيدة" في مصر ليرسم العقل بخطوط من السحر، وجهاً يريح العين ويسد ظمأ الروح، للقطة الملائكية آسرة القسمات، زبيدة ثروت (1940م ـ 2016م)، صاحبة أجمل عينين عرفتهما السينما المصرية، هي نوال "في بيتنا رجل"، وسامية في "الحب الضائع"، ونادية محبوبة العندليب في "يوم من عمري" حيث شدا لها خالدته "بأمر الحب".. هذه هي "زبيدة" التي نعرفها.. ولك أن تجرب اليوم أن تضيف اسم "زبيدة" في نافذة محرك بحث الكتروني على شبكة المعلومات الدولية، لتكون النتيجة وجهاً آخر لهذا الاسم، بطلة آخر القصص المختلقة لقناة BBC البريطانية، التي زعمت والدتها اختفائها القسري وتعرضها لانتهاكات، مطالبة السلطات بكشف مصير ابنتها وفي أي سجن تقبع، قبل أن تظهر المختفية قسرياً كضيفة لإعلامي بارز على قناة مصرية خاصة.. تلك هي "زبيدة" التي لا نعرفها.
بين صفحات التاريخ المطوية أكثر من وجه لـ "زبيدة" التي نعرفها، وجوه نحرص على أن نروي سيرتها، ونبرز مناقبها ومآثرها التي أضافت إلى هذا الاسم على مر التاريخ بهاءً وجلالاً.. ولعل درة تاجهم "زبيدة" بنت جعفر بن المنصور (149هـ ـ 216هـ)، زوجة الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد (149هـ ـ 193هـ) رائدة العمل الخيري في التاريخ الإسلامي قبل عصور الروتاري واللايونز. حيث ارتحلت في عام 186 هـ لأداء مناسك الحج، فواجهت الكثير من المشاق رغم موكبها العظيم، وهودجها الموشى، وناقتها الوضحاء، فعزمت لدى عودتها على إعادة الحياة إلى طريق الحج الوعر الذي يصل بين بغداد ومكة، الذي سمي منذ حينها "درب زبيدة".
أمرت بنت جعفر بتمهيد طريق الحج بطول 870 ميلاً، وشيدت على جانبيه المرافق والمنافع والآبار التي ظلت تخدم الحجيج لأكثر من 1200 عام، والتي ما تزال آثارها شاخصة بمنطقة حائل على الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، كما لقبت بـ "ساقية الحجيج" حيث هالها ما يكابده زوار بيت الله الحرام من مشقة العطش، فأطلقت مشروع ري عملاق شمل حفر عدد من القنوات لنقل المياه من منابع سقوط الأمطار إلى مكة بعمق 40 متراً تحت الأرض، ولمسافة امتدت لنحو 10 أميال، لتصبح قنوات "عين زبيدة" الخالدة حتى الآن بمعمارها الهندسي الفريد، ولم تثنها دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع عن تنفيذه ـ بلغت تكلفة المشروع نحو 1.7 مليون دينار ـ بل أصرت وهي تضع حجر الأساس، على اصدار توجيه واضح لمهندس المشروع : اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً !!
وإلى حقبة أخرى، حيث وجه جديد لـ "زبيدة" التي نعرفها، هي زبيدة بنت خاتون الزوجة الثانية للسلطان جلال الدولة ملكشاه (447 هـ ـ 485 هـ) ثالث سلاطين دولة السلاجقة، والتي كانت تعد امرأة حديدية لعبت دوراً سياسياً بارزاً إلى جانب زوجها السلطان امتد حتى بعد وفاته، الأمر الذي كان يتسق مع الدور التاريخي الذي قامت به أميرات دولة السلاجقة لتوطيد الصلات والعلاقات السياسية مع دولة الخلافة العباسية، من خلال الزيجات وعلاقات المصاهرة مع البيت العباسي، بما يمنح حكمهم صفة الشرعية، ويضمان للسلاجقة البقاء داخل البلاد الإسلامية وعدم العودة لحياة البداوة مرة أخرى.
زبيدة خاتون التي رزق من خلالها السلطان ملكشاه نجله الأكبر الأمير باركياروق، لم تتوقف مساعيها لضمان أن يظل "بارك" الوريث الشرعي الوحيد لعرش السلطنة، وكادت الرياح تأتي على حسب ما تشتهي سفنها، لولا الوفاة المفاجأة لملكشاه التي دفعت زوجته الأولى تركمان خاتون إلى اخفاء نبأها، حتى أمرت بحبس الأمير باركياروق وعقدت جولة موسعة لإسترضاء الأمراء وقادة الجند واغداق الاموال عليهم، سعياً لأن يتقلد الحكم نجلها محمود ذو الأربعة أعوام، ليكون ساتراً تحكم السلطنة من وراءه، كما نجحت في كسب تأييد الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله، وضمان صمت صوت الدين ممثلاً في الإمام أبو حامد الغزالي، وكان تسرب نبأ وفاة السلطان ملكشاة بمثابة نقطة التحول التي جعلت الانقسام يضرب بجذوره في أرض دولة السلاجقة، وإنطلقت دوامات من التناحر بين ابناء السلطان، أودت بالكثير من الضحايا، أبرزهم زبيدة خاتون، التي كانت نهايتها الخنق بسجن قلعة الري.
لم تنتهي بعد فصول قصة زبيدة خاتون.. فأحد أهم مشاهدها يتعلق بوطننا مصر، ليروي قصة جديدة تبرز صمود شعبها، وبأس جندها، الذي جعلها عصية دوماً على كل الغزاة...
فالدور السياسي الذي مارسته زبيدة خاتون إلى جانب زوجها السلطان ملكشاه، كان محفزاً لترجمة أحلامه في التوسع خارج حدود دولة السلاجقة، فمضت جحافل فتوحاته من بلاد ما وراء النهر حتى بلغت بلاد الشام وصولاً إلى بيت المقدس؛ ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل داعب خياله حلم ضم مصر الذي لم يكف عن مراودة الغزاة على مر التاريخ، فكان أن حرك جيشاً قوامه عشرين ألف مقاتل بقيادة أتسز بن أوق أحد أشهر القادة التركمان، الذي اتخذ الطريق الساحلي بين الشام ومصر، ليدخلها في عام 469 هـ حيث أقام معسكرا استغرق 50 يوماً بمنطقة الدلتا، قبل أن يتوجه إلى القاهرة ويضرب حصاراً حول أسوارها، تلك الأسوار التي تحطم أمام صلابتها حلم ضم مصر، فارتد الزحف عائداً إلى الشام، وفي كتاب التاريخ سيراً من البطولات التي سطرها أهل القاهرة في مواجهة هذا الحصار، بقيادة باسلة من الأمير أبو النجم بدر الجمالي أحد أبرز قادة الدولة الفاطمية.
عزيزي القارئ، إن كنت ما تزال تنتظر أن تجد بين سطور مقالتي، وجه"زبيدة" التي لا نعرفها، فأرجو ألا يصيبك الإحباط، فلن تجدها.