التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:13 م , بتوقيت القاهرة

اتفاق الغاز.. بلا ألغاز !

تقترب درجة حرارة حوض البحر المتوسط من حد الغليان، على النحو الذي ينذر بصيف مشتعل بالتوتر بين بلدان تطل على ضفافه، تصنع شكلاً خماسي الأضلاع، يضم تركيا، قبرص، اليونان، إسرائيل، ومصر، تسعى جميعها لإيجاد صيغ عادلة لتقاسم الاحتياطيات الاستراتيجية الضخمة من الغاز الطبيعي التي بدأت رائحتها تفوح من قاع المتوسط منذ سنوات، حيث تبلغ وفق تقديرات نحو 122 تريليون قدم مكعب، والتي يعد حجمها كافياً لأن يجعل الأمر لا يتطلب أكثر من إشعال عود ثقاب واحد، حتى تدخل المنطقة بأسرها في أتون نار متقدة.


«إذا كانت المقدمات تفضي دوماً إلى النتائج، فإن تتبع مسار خطى مصر في ملف "الطاقة" خلال السنوات الأربع المنقضية، ربما يؤكد أن "الاستحواذ" الذي حققته مصر مؤخراً على حساب لاعبين رئيسيين في المنطقة، لم يكن وليد الصدفة، ولعل أبرز دلائل ذلك هو التقارب الاستراتيجي بين مصر وقبرص واليونان».


الأحد 19 فبراير 2018، كان حوض البحر المتوسط على موعد مع فتيل جديد لهذا الموقف المتأزم، حيث أفادت وكالة رويترز أن الشركاء في حقلي تمار ولوثيان البحريين الإسرائيليين للغاز، وهما مجموعة ديليك الإسرائيلية وشركة نوبل إنيرجي الأمريكية، قد وقعا اتفاقيات مع شركة مصرية خاصة تدعى دولفينوس هولدنج، تنص على توريد نحو 64 مليار متر مكعب من الغاز على مدى عشر سنوات، باستثمارات تبلغ 15 مليار دولار، الصفقة التي تم وصفها من قبل ممثل عن مجموعة ديليك بـ "الأولى بين صفقات أخرى محتملة في المستقبل".


واسم "إسرائيل" كرائحة الغاز، مازال يثير في أنوف المصريين الارتياب، وينبت في عقولهم ألف علامة استفهام، لذا كان من الحكمة أن أتى الرد الرسمي المصري سريعاً على كافة الأصعدة ليسد أمام التساؤل كل باب، فلم يمر يوم الإعلان عن الصفقة إلا وكان بيان وزارة البترول المصرية قد أفصح أن الاتفاق الذي تم ابرامه بين شركات قطاع خاص من البلدين، جرى في ضوء الضوابط الخاصة بقانون تنظيم أنشطة سوق الغاز الصادر برقم 196 لسنة 2017 ولائحته التنفيذية، بما يتسق مع استراتيجية مصر لتغدو مركزاً إقليمياً لتجارة وتداول الغاز.


وحسم وصف السيد عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية لهذا الاتفاق بـ "الهدف" الذي أحرزته مصر، ليقلب شعور التوجس إلى الفخر، حيث كشف أن الصفقة ربما تم انتزاعها من بين أنياب أطراف أخرى اقليمية، بما يشكل انتصاراً جديداً لقدرة مصر على التحرك والتأثير والمناورة في محيطها الإقليمي لحماية مصالحها القومية.


وقبل نهاية الأسبوع المنصرم، استفاض المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء في جلسة صحفية سعى خلالها بخبرته الطويلة إلى وضع النقاط فوق الحروف، حيث فضل استخدام لفظ "استقبال" بدلاً من "استيراد" عند الحديث عن الغاز الإسرائيلي، جازماً بأن مصر على وشك تحقيق الاكتفاء الذاتي بنهاية هذا العام، ثم الوصول إلى فائض مع منتصف العام المقبل 2019، والذي لا تسعى الدولة لتصديره بل ستدخره لأغراض التنمية.    


كما أوجز رئيس الحكومة القصة في استقبال غاز من إسرائيل لصالح شركة قطاع خاص مصرية، بما يحقق الاستفادة من البنية التحتية والخبرة المصرية في مجال تسييل الغاز ومعالجته، التي تفتقر لها إسرائيل، في الوقت الذي يدفع أيضاً نحو إعادة التشغيل بكامل الطاقة لمحطتي تسييل الغاز التي تمتلكهما مصر في محافظتي البحيرة ودمياط، فضلاً عن تسوية قضايا تتعلق بالتحكيم الدولي، وتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للطاقة. 


وإذا كانت المقدمات تفضي دوماً إلى النتائج، فإن تتبع مسار خطى مصر في ملف "الطاقة" خلال السنوات الأربع المنقضية، ربما يؤكد أن "الاستحواذ" الذي حققته مصر مؤخراً على حساب لاعبين رئيسيين في المنطقة، لم يكن وليد الصدفة، ولعل أبرز دلائل ذلك هو التقارب الاستراتيجي بين مصر وقبرص واليونان الذي بلغ حد الزخم من خلال عقد خمس قمم رئاسية ثلاثية بين القاهرة وأثينا ونيقوسيا بين نوفمبر 2014 و2017، كان أحد محاورها إتمام اتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين البلدان الثلاث في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط، وربما كان هذا "الترسيم" ضيفاً رئيسياً في حفل افتتاح مرحلة الإنتاج المبكر لحقل ظهر البحري في فبراير 2018، والذي أعلنت شركة ايني الإيطالية عن اكتشافه في أغسطس 2015 والذي يتم وصفه بـ الكشف "الأضخم" من نوعه في البحر المتوسط، حيث تقدر احتياطياته بنحو30 تريليون قدم مكعب من الغاز، ما يعادل احتياطيات إسرائيل وسلطنة عمان مجتمعين على حد وصف تقرير لوكالة بلومبرج.


الطريق إلى فهم فلسفة اتفاق السلام بكامب ديفيد في ربيع عام 1979 لا يتسنى دون المرور عبر أرض سيناء الطيبة، لتدرك أن التوقيع المصري حينها تم بحروف من قوة وعزة، لتكون الاتفاقية كآخر جولات الحرب، ومن هذا المنطلق فإنه من غير المنصف أن نحاول تفسير مغزى اتفاق الغاز الأخير بغير فهم الأسباب والدوافع التي أفضت إليه، ومعرفة النتائج والآثار التي ستنجم عنه، ولعله بات واضحاً مما سبق ان الاتفاق تجارياً بحتاً، تحكمه قواعد الندية بحيث يحقق المصلحة المشتركة ويخضع للضوابط المنظمة في كلا البلدين، وربما لم يعد يخفى أن مصر لم تجني ثماراً ناضجة على مدار عقود طويلة اتجهت فيها نحو الشرق أو الغرب، لذا فقد آن لها أن تتخلص من كل الأثقال التي كبلت طويلاً حركتها نحو الأمام، وتسعى لبناء علاقات متوازنة مع مختلف البلدان لاسيما دول الجوار، هي وحدها القادرة على الحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها واستثمار مزاياها النسبية.


المقال يعبر عن رأي كاتبه فقط ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع


*المزيد من مقالات الكاتب


فيلم (Darkest Hour) والواقع المصري !!
الإرهاب.. والرمق الأخير !!
رسائل الرئيس المنصفة: شريف إسماعيل