التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:53 ص , بتوقيت القاهرة

حكايتي مع المتسولين.. الشحات «الأرستقراطي»

في العام 1989 أجبرني مكتب التنسيق على ترك قريتي، وقذف بي إلى مدينة القاهرة؛ لأدرس في كلية دار العلوم.. كنت حينها مثل أي قروي لا يظن بأحد إلا كل خير، ولم يشكك في نوايا الآخرين، ولا علاقة له بأمور النصب التي يجيدها البعض، ويستغلون طيبة البسطاء للإيقاع بهم في حبائلهم.

في هذا العام بدأت علاقتي بـ«المستولين»، و«عالم الشحاتة»، من خلال موقف غريب حدث معي، بطله كان شخصًا «أنيقًا»، طويل القامة، يرتدي «بذلة» رمادية أنيقة، وكرافت شيك، وحذاء كلاسيكي من النوع الذي كان يصعب- على أمثالي- اقتناءه، ولم يطبع عليه التراب أي قبلة، ونظارة تحجب ضوء الشمس عن عينيه، وحقيبة «سامسونايت» فاخرة.

لأول وهلة تظنه مسؤولًا كبيرًا؛ فهيئته، وسمته لا يتركان فرصة لأحد أن يتشكك فيه.

قابلته في ميدان رمسيس في يوم خميس.. كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرًا.. كنت حينها عائدًا من مستشفى كوبري القبة العسكري؛ إذ كان شقيقي الأكبر مجندًا في القوات المسلحة، وخضع لإجراء عملية جراحية هناك. وكنتُ- بعد الانتهاء من المحاضرات- أزوره يوميًا للاطمئنان على صحته، ومراعاة شؤونه، وأخذ ملابسه المتسخة لاستبدالها بأخرى نظيفة آخر الأسبوع.

وبينما كنت أتأهب لركوب سيارة الأجرة من موقف أحمد حلمي عائدًا إلى قريتي، فوجئت بشخص يضع يده على ظهري، فالتفتُ إليه، فقابلني بابتسامة عريضة.. ودون أن يترك لي فرصة للاندهاش أو التساؤل عن سر استيقافه لي، بادرني قائلًا: «أنا أخوك فلان، من الفيوم، وفقدت محفظتي وبها كل أموالي، ومحتاج 75 قرش عشان أكمل الأجرة وأرجع إلى بلدي»!

مادت الأرض تحت قدمي.. المفاجأة عقدت لساني.. يا إلهي، مسكين هذا الشخص الذي فقد أوراقه الشخصية، وحافظة نقودة.. تلعثمت للحظات، ثم تأسفت إليه أسفًا شديدًا، وأقسمت له أنني لا أملك في جيبي إلا ثمن العودة إلى قريتي.. كنتُ صادقًا في قسمي، إذ كانت من عاداتي «القبيحة» إنفاق كل ما لدي من أموال قبل العودة إلى قريتي، على أمل العودة بأموال جديدة من والديَّ، دون الأخذ في الحسبان أي أمر طارئ قد يحدث في الطريق.

معتذرًا، ودعني الرجل بابتسامة أعرض من تلك التي استوقفني بها.. قال لي كلامًا كثيرًا، قبل أن يدعو الله أن يكفيني شر الطريق.. فشكرته وأكملتُ سيري باتجاه سيارة الأجرة، وحشرتُ نفسي فيها.

طول طريق العودة إلى القرية، لم يغب عن ذهني هذا الرجل، كلماته تؤرق ذهني، تعصف بكياني.. كيف لي لم أدخر نقودًا زائدة على الأجرة، وأعمل حساب تلك اللحظة.. أنا وغد.. أنا لا أستحق أن أكون إنسانًا.. 

قصصتُ الأمر على والدتي- رحمها الله- فعنفتني كثيرًا.. قالت لي ما قاله مالك في الخمر.. أوضحت لي- وأنا العالم- بفضل مَنْ فرَّجَ عن أخيه كربة من كرب الدنيا، وعن فضل الصدقة.. وأصرتْ على أن أحتفظ بنقود زائدة عن حاجتي بعيدًا عن متناول يدي؛ تحسبًا لأمر كالذي حدث معي.

عاودتُ الكرة من جديد.. أسبوع كامل أمضيه بين المحاضرات وزيارة شقيقي.. وفي يوم الخميس كان الطبيب المعالج قد سمح لشقيقي بمغادرة المستشفى، واستكمال العلاج والنقاهة في المنزل؛ فاستوقفت «تاكسي» ليذهب بنا إلى موقف أحمد حلمي، لنستقل سيارة إلى قريتنا.

وبينما ونحن ننزل من التاكسي، حتى فوجئت بنفس الشخص الذي استوقفني الخميس الماضي.. وبنفس الابتسامة طلب مني «75 قرشًا» ليعود إلى بلده.. وبكل براءة سألته: «انت لسه ما روحتش من الأسبوع إللي فات»؟!
وبلجهة حادة، قالي لي: «طب يلا.. طريقك أخضر».. واختفى من أمامي، وذاب في الكتل البشرية التي يعج بها ميدان رمسيس.
ولما قصصتُ على شقيقي ما حدث، أخبرني أنه «شحات»، وأن «المتسولين» يمارسون فنونًا عدة؛ للإيقاع بضحاياهم.