"إياك والزواج من كبيرة القدمين".. وصفة بائع محترف للإيقاع بزبائن معرض الكتاب
بخُطى متسكعة، يدخل رجل خمسينيّ، تتعلق بذراعه فتاة عشرينية، إلى «هنجر» إحدى دور النشر المصرية الشهيرة، يُلقيان نظرة عامة على المكان الواسع الذي يموج بحركة شراء رائجة، بانرات معلقة هنا وهناك، كتب على الرفوف موسومة بـ"البيست سيلر"، كادا يعودان أدراجهما وربما تظفر بهما دار نشر مجاورة، بابتسامة واسعة يستقبلهما العارض الشاب في زيه الرسمي، يُلقي عليهما التحية ويعرض عليهما خدمته، يبادر إلى توجيه كلامه إلى الشابة العشرينية، متسائلا عن اهتماماتها في القراءة، تنطق أخيرا متحفظة، يسارع بحركة مسرحية إلى التقاط كتابين من على الرف بغلافين مميزين، يُزيل الغلاف البلاستيكي برشاقة ويمنح الشابة فرصة لتصفح الكتابين بأريحية، ولم ينسَ وسط ذلك أن يمنح مرافقها الخمسيني كتابا من أحدث الكتب، هجس أنه ربما يحوز اهتمامه، وخاصة أنه مذكرات واحد من أشهر الساسة المصريين.
تعود إليه الفتاة بابتسامة أعرض وقد اقتنعت بترشيحاته، وقبل أن يقرر الذهاب إلى الكاشير، تلك اللحظة المميزة للعارض الشاب والتي تعني "بونس" في نهاية اليوم، يختطف كتابا من القطع الكبير، كتابا ضخما ويلقيه باحترافية بين يدي الفتاة الشابة، مما أثار فضول مرافقها الخمسيني ورمق الكتاب بجانب عينه.
تتعالى الضحكات، لقد نجح حقا في إخراج الرجل الخمسيني الوقور عن صمته المستميت: «هههه، "إياك والزواج من كبيرة القدمين"، ههههه بس هيا مع الأسف مش الجو بتاعي، ههه، دي بنتي». يغمرها بنظرة أبوية حانية ويغمز للعارض الشاب: «لأ هشتريه، عشان خاطرك بس يا جميل».
هذه إحدى الخبرات المميزة التي يحكيها لنا الناشر والعارض الشاب، المحترف بيع الكتب وليس عارضا طارئا موسميا، عن أبرز الحيل التي يتفنن فيها بائعو الكتب المحترفين لاجتذاب زبائن معرض الكتاب العابرين، ويعدد لنا خبرات تتلامس مع نظريات علم التسويق.
يلفت العارض الشاب إلى أن الزبون واحد، سواء من النخبة المثقفة أو من الطبقة الراقية أو الطبقة المتوسطة أو الفقراء، الزبون واحد تستطيع استمالته بالابتسامة والكلمة الحُلوة، لكلٍ دخلته، فقط عليك أن تكون لمّاحا وتقدم المساعدة بحب ولطف وحماس، وهذا بالطبع ليس متوافرا في العارضين الموسميين الذين يُستدعون على عجل لتغطية عجز العَمالة خلال فترة معرض الكتاب، بالتأكيد نقدم لهم المشورة والنصائح، إلا أن المسألة تتجاوز مجرد التلقين، الأمر يحتاج إلى "إحساس مرهف"، نعم الكتاب في النهاية سلعة، لكنه سلعة مختلفة واستثنائية.
إتش دبور
يذكرنا العارض الشاب، بينما يعيد ترتيب الكتب على الرفّ والذي صار سلوكا شخصيا مع الأيام، بموقف طريف كان بطله شابا جامعيا التحق بالعمل معهم خلال فترة معرض الكتاب منذ سنوات: "لقد أثار انتباهي أن هناك كتابا عليه إقبال شديد من فئة المراهقين، وخاصة في نطاق عمل «أيمن»، كل فترة يزوّد الرفّ بالكتاب، راقبته يستوقف شبابا لم ينهوا بعد دراستهم الجامعية بل وطلاب ثانوي، يدخلون جميعا في نوبة ضحك، ويأخذوا الكتاب، كان لا بد أن أعرف، كان «أيمن» يلفت نظر الزبائن إلى صاحب الكتاب، هيثم دبور، بالتأكيد هيثم دبور له جمهوره ومقروء وكتاباته عليها إقبال الآن، أنا أتكلم قبل سنوات، ويحيلهم إلى فيلم «مرجان أحمد مرجان»، بالفعل إلى إتش دبور، هيثم دبور، ويضحك الجميع، ويشترون الكتاب، الشاهد هنا لماحية وذكاء البائع حتى ولو كان بنظر البعض مُضلِلا، المبيعات تطلب أحيانا حس التضليل، ليس تضليلا، ببساطة أنا لا أكذب ولكني أتجمل، هذا الشاب استطاع بحيلة أن يبيع منتجا بالذكاء وخفة الدم".
دع الرفّ فارغا إلا قليلا
يشير الناشر الشاب بإصبعه إلى أسلوب العرض داخل المكان: "نعتمد بالتأكيد على مهندسي ديكور ومصممين لاستغلال أكبر مساحة ممكنة، ونعتمد على وجود الكتاب المستهدف وخاصة حديث النشر في أكبر عدد ممكن من الأماكن حتى تلاحظه العين أكثر من مرة، وفي الأماكن المميزة، لا بد أن يكون الرف غير ممتلئ، فارغا إلا قليلا، مما يعطي انطباعا برواجه والإقبال عليه، البيع مسألة نفسية جدا".
نظرية الجماهير الغفيرة
رغم ضيق مكان العرض الذي تشغله دار النشر الشبابية وانزوائه في صالة عرض جانبية، إلا أن المكان يزدحم بالزبائن، يعوق انسيابية المرور منضدةٌ صغيرة وكرسي يجلس عليه أحد الكُتّاب الشباب، بمجرد التقاط أحد الزبائن الكتاب يتوجه إليه عارض شاب ينضح وجهه حماسا وعرقا أيضا رغم الأجواء الشتوية، يُغري الزبون بشراء الكتاب والظفر بتوقيع الكاتب الشاب الذي يتصادف حضوره، بالفعل ينال ما خطط له.
يكشف مدير التوزيع والتسويق في دار النشر الشبابية عن خطة الدار لاغتنام فرصة المعرض لتعويض الخسائر السنوية وحالة الكساد في البيع والشراء، هو نفسه مدير حسابات في إحدى الشركات ويعتبر عمله في النشر هواية يحبها: "المصريين بيجوا على اللمة، بتجذبهم الزحمة، فضوليين بطبعهم، بمجرد توقفهم عند رف الكتب يعتبر دا نجاج كبير بالنسبة لنا، وعلينا اغتنام الفرصة العظيمة دي"، ويضيف: "الدار بتقوم أساسا على كُتّاب شباب، بنروجلهم بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكل كاتب بيجي معه بالطبع حاشيته من العيلة والأصحاب، وهؤلاء زبائن مضمونين، بالإضافة إلى اجتذاب الحاشية لمزيد من الزبائن، الزحمة بتجيب زحمة، هذا شيء معروف في علم التسويق والدعاية، ما نسطيع أن نسمية بنظرية الجماهير الغفيرة".
تمتمة لا تخبر عن السعر
لا يخفي محترفو بيع الكتب انزعاجهم الشديد عند التطرق لهذه النقطة الجوهرية شديدة الحساسية، فالعلم والثقافة والأدب وحتى الدين يُباعوا ويُشتروا، حسب رؤيتهم التسويقية، يقول صاحب دار نشر حديثة الإنشاء، دخل المجال من تسويق الكتب إلكترونيا: "لست بائع مصاحف أمام الحسين تكفيني كلمة ممنوع الفصال في كتاب الله.. حتى أحرج الزبائن وأنهي المناهدة والفرهدة في السعر، أنا مواطن اكتوى بنار الأسعار وأعرف جيدا أن الكتاب صار ترفًا، لكن الناس ترغب بالفعل في الشراء، هذا الكتاب أو ذاك هو دليلهم على الذهاب للمعرض، هناك اختلاف جوهري بين التسويق الإلكتروني والتعامل المباشر مع الزبون".
يعود بنا صاحب دار النشر حديثة العهد إلى بداية احتكاكه بمجال بيع الكتب مباشرة لزبون حقيقي، وليس زبونا افتراضيا، وتحديدا إلى ورشة تدريبية قصيرة نظمتها إحدى دور النشر للمتطوعين للعمل معها في معرض الكتاب دورة عام 2008: "كان سؤالا ملحا جدا، سؤال السعر، سألَنا المدرب ماذا نقول عند سؤال الزبون عن السعر، جميعنا تقريبا رد سنجيبه بسعر الكتاب، أعطانا ظهره لمدة دقيقتين تقريبا ولم يغير ذلك من وجهة نظرنا شيء، بدأ حديثه بمهارة المراوغة والقدرة على المناورة بشتى الطرق، في النهاية ستخبر الزبون حتما عن السعر، وهي لحظة صادمة للمشتري الذي يتطلع لاقتناء الكتاب الذي وقع عليه اختياره، مجرد السؤال عن السعر يعني أننا نملك صفقة محتملة بنسبة 50%، معك منتج مادي ملموس، بغض النظر عن أسطوانة سعر الدولار وارتفاع أسعار الورق والأحبار والنقل عالميا، المراوغة هي الحل، هذا ليس أي منتج، هكذا نتوجه للزبائن بتعديد مزايا الكتاب، هذا ورق مميز ذو جودة عالية، ورق صافي يميل إلى الصفرة لتجنب إرهاق العين، الأحبار من أفضل وأجود الأنواع، حبر ثابت وواضح، مفيش رشح في حوافي الكلام، تنسيق الصفحة وطريقة القطع، التغليف، الألوان.. إلخ".
يتابع صاحب دار النشر: "لكن الزبون يسأل في النهاية عن السعر، مهما حاولنا المراوغة والمدح في المنتج، الزبون يطلب رقما محددا، لكن فن المراوغة بحسب مدربنا العبقري ما زال يبوح بأسرار أخرى، المراوغة هذه المرة تأخذنا إلى إبراز أن المنتج عليه خصم خلال فترة المعرض، خصم بنسبة 20%، وعند تلفظك بالسعر النهائي عليك أن تخفي مخارج الحروف وتخفض صوتك وتقوله بطريقة خاطفة وتفر فورا من الزبون".
العدد في الليمون
يتعامل بائعو الكتب المحترفين مع نسب الإقبال الجماهيري الكبير على زيارة معرض الكتاب بكثير من التحفظ، ويستقبلون الأرقام التي تفيد بزيارة مليون شخص لمعرض الكتاب خلال الأيام الثلاثة الأولى بضحكة هازئة، فبرأيهم أن هناك شريحة كبيرة من الزائرين لا تدخل من الأصل إلى أجنحة العرض وتكتفي بالتجول فقط في شوارع أرض المعارض مستمتعين بالجو وسندوتشات الشاورما وفناجين القهوة. كما أنهم يتحفظون بشكل كبير على قوائم البيست سيلر، فبحسب نظرتهم: من يحدد الأكثر مبيعا؟، كل دار نشر لديها قائمة بالأكثر مبيعا وتستميت في الدفاع عنها، ومع ذلك فهم سعداء باستمرارية فعاليات معرض الكتاب سنويا، ويجمعون على أنه مهما ارتفعت الأرقام، فكله "عدد في الليمون"، وتبقى فقط حيلهم وتفانينهم في اصطياد زبون عابر و"تدبيسه" في كتاب يثير فضوله للقراءة قبل النوم.
الفوازير لـ"نيللي".. و"نيللي" لنا جميعا