التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 05:50 م , بتوقيت القاهرة

بين العام والشخصي

تمر البلاد بظروف عصيبة. يظن البعض أن تلك الظروف بدأت بأحداث يناير 2011. لكن الحقيقة أن ظروف الوطن العصيبة حالة مستمرة منذ وحد الملك مينا قطرية. الفرق بين ظروف الوطن قبل 2011 بعدها بعض التفاصيل الصغيرة.


ففي عامي السادس والثلاثين على ظهر الكوكب، عاصرت مع الوطن التخبط الاقتصادي في الثمانينات، وبرنامج الإصلاح الاقتصادي في التسعينات. حضرت زمن الإرهاب الجميل، حيث يقوم المسلحون بالسطو على محلات الذهب وحيث التفجيرات تقتل الأطفال في المدارس. شهدت وقتًا كان يمكننا أن نطلق فيه على الصعيد، "صعيدستان". وعايشت فاصلا قصيرا، أعلن فيه أحدهم أنه أمير على إمبابة الإسلامية قبل أن يتم تحريرها من خرفه. ولدت قبل اغتيال رئيس، وانزعجت لمحاولة اغتيال آخر.


واستقبلت الألفية الجديدة بالحماس، رغم أن ظروف الوطن العصيبة لم تتغير كثيرًا. كان التذمر من الحكومة مستمرًا. أتهم من طبقوا سياسات الإصلاح الاقتصادي بالفساد. رغم أن مقارنة بسيطة بالحياة ما قبل هذه السياسات كانت لترحب بالفساد إذا كانت نتائجه بهذه الإيجابية! استمر التذمر من الحكومة، وفجأة ظهر مصطلح "النظام"، وأصبح التذمر موجهًا للنظام بدلًا من توجيهه المعتاد تجاه السياسات الحكومية الغبية.


قبل 2011 لم تكن أزمات الحكومة والمعارضة جديدة على الوطن، ولم يكن حتى تدويلها جديدًا على الوطن.  لم يكن أي مما حدث ويحدث بعد أحداث يناير مختلفًا عن الظروف العصيبة التي يمر بها الوطن منذ جلس التاريخ ليتعلم من سكانه الكتابة. لماذا إذًا تبدو أحداث يناير وما تلاها من سنين كمحنة تكتم على صدر الوطن؟


بسم الله الرحمن الرحيم الإجابة: ثورة الإتصالات. (لم تكن الإجابة تونس أبدًا!)


لسبب ما يظن الكثيرون- وإن بعض الظن إثم - أن قبل أحداث يناير لم يكن المواطن المصري العادي مهتمًا بالسياسة. الحقيقة إن المواطن المصري العادي كان دائمًا مهتمًا بالسياسة، وكان "بيفتي" عادي جدًا ولكن هذا الإفتاء كان مخصصًا لحوارات المقهى والمصطبة، وكان في أغلبه موجهًا لانتقاد السياسات الغبية للحكومة وتناقل الشائعات عن فلان وعلان من أهل السلطة، وربما ينجر النقاش للسياسة الدولية والقوى العظمى والمؤامرات على الشرق وشر إسرائيل، وغيرها من الموضوعات الجيوسياسية المعقدة.


كل ما تغير في عادات المواطن المصري أنه استبدل المقهى والمصطبة بشبكات التواصل الاجتماعي. أصبحت حوارات المقاهي غير مرتبطة بزمان ولا محددة بوقت. لم تعد شائعات المصطبة محدودة التأثير. أصبح لكل "مفتي" جمهور من المعجبين وليس فقط القليل من الأصدقاء "اللي حافظين تاريخه صم".


لكن ثورة الاتصالات وحدها لم تكن لتكون وراء تخصيص هذه الفترة من عمر الوطن بوصف العصيبة لولا تفصيلة استبدال انتقاد "السياسات الحكومية" بانتقاد "النظام". ثم اختزال فكرة النظام في شخص الرئيس والقليل جدًا من معاونيه.


أصبح فجأة كل من يدافع عن السياسات الحكومية ويتبنى مواقف الدولة شخصًا مواليا للنظام. واتخذت المناقشات السياسية على شبكات التواصل الاجتماعي شكلًا آخر مختلفًا عما كانت تأخذه على المقهى. تحولت النقاشات السياسية لنقاشات "كروية". تبدأ بانتقاد المدرب وتنتقل لشتيمة الحكام واللاعبين وتنتهي في القسم بعد معركة صغيرة بالسلاح الأبيض.


ما حدث في يناير كان مثل تلك المعارك الكروية "السلمية" "البريئة"، التي تنتهي في أقسام الشرطة. ولكن المعركة لم تنته، لأن أطرافها استمروا في تبني نفس التفصيلة التي أثارت المعركة بالأساس، والتفصيلة هي "محاربة النظام" بدلًا من انتقاد السياسات الحكومية.


تفصيلة "محاربة النظام" هي التي تجعل كل فريق يصف الآخر بالقوادة، ووصف "القواد" ورغم أنه قد ينطبق على بعض المتكسبين من السياسة، إلا أنه بكل تأكيد لا ينطبق على صديقك الذي قد يتفق معك على الهدف، ولكن لا يتفق على طريقة الوصول إليه. والقواد بكل تأكيد ليس المواطن المصري الذي أعيته الظروف العصيبة ويحركه الخوف من مصير مجهول أنقذه القدر منه مرتين ولا يضمن إن كان سيفعلها مرة ثالثة.


تمر البلاد بظروف عصيبة، نحارب الإرهاب ونعاني من المشكلات الاقتصادية، وتحاول بعض الأصوات المعارضة تدويل قضاياها، ولكن كل هذا لم يكن ليوصف بالظروف العصيبة لولا تحويله "لعركة شخصية".


فحينما تتهم شخصًا لا يتكسب من السياسة بالقوادة فقط، لأنه يتبنى آراء لا تتفق مع ما تظنه الرأي الصحيح فأنت تحول الخلاف من تنافس على المصلحة العامة لعداء شخصي. وما هو عام يُنسى ويتغير لكن ما هو شخصي ثأر، دين سيحرص أصحابه أن تسدد له لهم!